فصل : في الكلام على الذرية، وفيه مسألتان
وأما الذرية فالكلام فيها في مسألتين:
المسألة الأولى في لفظها، وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها من ذرأ الله الخلق، أي : نشرهم وأظهرهم، إلا أنهم تركوا همزها استثقالاً، فأصلها ذرأة بالهمز فعلة من الذرء، وهذا اختيار صاحب الصحاح وغيره.
والثاني: أن أصلها من الذر، وهو النمل الصغار، وكان قياس هذه النسبة ذرية بفتح الذال وبالياء، لكنهم ضموا أوله وهمزوا آخره وهذا من باب تغيير النسب.
وهذا القول ضعيف من وجوه:
منها مخالفة باب النسب، ومنها إبدال الراء ياء، وهو غير مقيس.
ومنها أن لا اشتراك بين الذرية والذر إلا في الذال والراء، وأما في المعنى فليس مفهوم أحدهما مفهوم الآخر.
ومنها أن الذر من المضاعف والذرية من المعتل أو المهموز، فأحدهما غير الآخر.
والقول الثالث:ت أنها من ذرا يذروا: إذا فرق، من قوله: تذروه الرياح [الكهف:45]، وأصلها على هذا ذرية فعلية من الذرو ثم قلبت الواو ياء لسبق إحداهما بالسكون.
والقول الأول أصح، لأن الاشتقاق والمعنى يشهدان له، فإن أصل هذه المادة من الذرء ، قال الله تعالى: جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه [ الشورى: 11]، وفي الحديث: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، وقال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس [الأعراف:179]، وقال تعالي: وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه [النحل:13]، فالذرية منه بمعنى مفعولة أي مذروة ثم أبدلوا همزها فقالوا ذرية.
المسألة الثانية في معنى هذه اللفظة.
ولا خلاف بين أهل اللغة أن الذرية يقال على الأولاد الصغار وعلى الكبار أيضاً، قال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي [البقرة:124]، وقال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض [آل عمرا:34-35]، وقال: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [الأنعام:87]، وقال تعالى: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا [الإسراء:2-3].
وهل تقال الذرية على الأباء؟ فيه قولان: أحدهما أنهم يسمون ذرية أيضاً.واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون [يس:41].
وأمكر ذلك جماعة من أهل اللغة، وقالوا لا يجوز هذا في اللغة، والذريية كالنسل والعقب لا يكون إلا للعمود الأسفل، ولهذا قال تعالى: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم [الأنعام:87]، فذكر جهات النسب الثلاث من فوق، ومن أسفل، ومن الأطراف.
قالوا: وأما الآية التي استشهدتم بها فلا دليل لكمت فيها، لأن الذرية فيها لم تضف إليهم إضافة نسل و إيلاد، وإنما أضيفت إليهم بوجه ما. والإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، وإذا كان الشاعر قدت أضاف الكوكب في قوله:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة سهيل أذاعت غزلها في القرائب
فأضاف إليها الكواكب لأنها كانت تغزل إذا لاح وظهر، والاسم قد يضاف بوجهين مختلفين إلى شيئين، وجهة إضافته إلى أحدهما غير جهة إضافته إلى الأخر، قال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
فأضاف بنوته بجهة غير جهة إضافته إلى أبيه عبد الله، وهكذا لفظة رسول الله، فإن الله سبحانه يضيفه إليه تارة، كقوله قد جاءكم رسولنا [المائدة:15]، وتارة إلى المرسل إليهم كقوله:أم لم يعرفوا رسولهم [المؤمنون:69]، فإضافته سبحانه إليه إضافة رسول إلى مرسله، وإضافته إليهم إضافة رسول إلى مرسل إليهم، وكذا لفظ كتاب فإنه يضاف إليه تارة، فيقال: كتاب الله. ويضاف إلى العباد تارة، فيقال: كتابنا القرآن، وكتابنا خير الكتب، وهذا كثير، فهكذا لفظ الذرية أضيف إليهم بجهة غير الجهة التي أضيف بها إلى آبائهم.وقالت طائفة: بل المراد جنس بني آدم، ولم يقصد الإضافة إلى الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما أريد ذرية الجنس.
وقالت طائفة:بل المراد بالذرية نفسها، وهذا أبلغ في قدرته وتعديد نعمه عليهم ، أن حمل ذريتهم في الفلك في أصلاب آبائهم، والمعنى: أنا حملنا الذين هم ذرية هؤلاء وهم نطف في أصلاب الآباء، وقد أشبعنا الكلام على ذلك في كتاب الروح والنفس.
إذا ثبت هذا، فالذرية الأولاد، وهل يدخل فيها أولاد البنات؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد ، إحداهما: يدخلون، وهو مذهب الشافعي. والثانية: لا يدخلون، وهو مذهب أبي حنيفة.
واحتج من قال بدخولهم/ بأن المسلمين مجمعون على دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب لهم من الصلاة، لأن أحداً من بناته لم يعقب غيرها، فمن انتسب إليه صلى الله عليه وسلم من أولاد ابنته، فإنما هو من جهة فاطمة رضي الله عنها خاصة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته: إن ابني هذا سيد فسماه ابنه. ولما أنزل الله سبحانه آية المباهلة: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم [آل عمران:11] الآية، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحسيناً، وخرج للمباهلة.
قالوا: وأيضاً فقد قال تعالى في حق إبراهيم: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس [الأنعام:84-85]. ومعلوم أن عيسى لم ينتسب إلى إبراهيم إلا من جهة أمه مريم عليها السلام.
وأما من قال بعدم دخولهم : فحجته أن ولد البنات إنما ينتسبون إلى آبائهم حقيقة، ولهذا إذا ولد الهذلي أو التيمي أو العدوي هاشمية لم يكن ولدها هاشمياًً، فإن الولد في النسب يتبع أباه، وفي الحرية والرق أمه، وفي الدين خيرهما ديناً، ولهذا قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولو وصى أو وقف على قبيلة لم يدخل فيها أولاد بناتها من غيرها.
قالوا: وأما دخول فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، فلشرف هذا الأصل العظيم والوالد الكريم، الذي لا يدانيه أحد من العالمين، سرى ونفذ إلى أولاد البنات لقوته وجلالته وعظم قدره، ونحن نرى من لا نسبة له إلى هذا الجناب العظيم من العظماء والملوك وغيرهم تسري حرمة إيلادهم وأبوتهم إلى أولاد بناتهم، فتلحظهم العيون بلحظ أبنائهم، ويكادون يضربون عن ذكر آبائهم صفحاً، فما الظن بهذا الإيلاد، العظيم قدره الجليل خطره؟
قالوا: وأما تمسككم بدخول المسيح في ذرية إبراهيم فلا حجة لكم فيه. فإن المسيح لم يكن له أب، فنسبه من جهة الأب مستحيل، فقامت أمه مقام أبيه، وهكذا كل من انقطع نسبه من جهة الأب إما بلعان أو غيره قامت أمه في النسب مقام أبيه وأمه، ولهذا تكون في هذه الحال عصبته في أصح الأقوال، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد ، وهو مقتضى النصوص، وقول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، والقياس يشهد له بالصحة، لأن النسب في الأصل للأب، فإذا انقطع من جهته عاد إلى الأم، فلو قدر عوده من جهة الأب رجع من الأم إليه، وهكذا كما اتفق الناس عليه في الولاء أنه لموالي الأب، فإن تعذر رجوعه إليهم صار لموالي الأم، فإذا أمكن عوده إليهم رجع من موالي الأم إلى معدنه وقراره،ومعلوم أن الولاء فرع على النسب يحتذى فيه حذوه فإذا كانت عصبات الأم من الولاء فرع على النسب يحتذى فيه حذوه، فإذا كان عصبات الأم من الولاء عصبات لهذا المولى الذي انقطع تعصيبه من جهة موالي أبيه، فلأن تكون عصبات الأم من النسب عصبات لهذا الولد الذي انقطع تعصيبه من جهة أبيه بطريق الأولى، وإلا فكيف يثبت هذا الحكم في الولاء ولا يثبت في النسب الذي غايته أن يكون مشبهاً به ومفرعاً عليه، وهذا مما يدل على أن القياس الصحيح لا يفارق النص أصلاً، ويدلك على عمق علم الصحابة رضي الله عنهم، وبلوغهم في العلم إلى غاية يقصر عن نيلها السباق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فصل : في الاحتجاج للقول الرابع أن آله الأتقياء من أمته
وأما أصحاب القول الرابع : أن آله الأتقياء من أمته.
فاحتجوا بما رواه الطبراني في معجمه: عن جعفر بن إلياس بن صدقة، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من آل محمد ؟ فقال: كل تقي ، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم : إن أولياؤه إلا المتقون [ الأنفال: 38]، قال الطبراني : لم يروه عن يحيى إلا نوع، تفرد به نعيم. وقد رواه البيهقي : من حديث عبد الله بن أحمد بن يونس، حدثنا نافع أبو هرمز، عن أنس، فذكره.
ونوح هذا ونافع أبو هرمز لا يحتج بهما أحد من أهل العلم، وقد رميا بالكذب
واحتج لهذا القول أيضاً بأن الله عز وجل قال لنوح عن ابنه: إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح [ هود: 46]، فأخرجه بشركه أن يكون من أهله، فعلم أن آل الرسول صلى الله عليه وسلم هم أتباعه.
وأجاب عنه الشافعي رحمه الله بجواب جيد، وهو أن المراد أنه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم، ووعدناك بحلتهم، لأن الله سبحانه قال له قبل ذلك : احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول [هود: 40] ، فليس ابنه من أهله الذين ضمن نجاتهم.
قلت:ت ويدل على صحة هذا أن سياق الآية يدل على أن المؤمنين قسم غير أهله الذين هم أهله، لأنه قال سبحانه: احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن [هود: 40] فمن آمن معطوف على المفعول بالحمل، وهم الأهل والاثنان من كل زوجين
واحتجوا أيضاً بحديث واثلة بن الأسقع المتقدم ، قالوا: وتخصيص واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة به، وكأنه جعل واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة به، وكأنه جعل واثلة في حكم الأهل تشبيهاً بمن يستحق هذا الاسم.
فهذا ما احتج به أصحاب كل قول من هذه الأقوال.
والصحيح هو القول الأول، ويليه القول الثاني.ت وأما الثالث والرابع فضعيفان ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله: إن الصدقة لا تحل لآل محمد، وقوله: إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وقوله: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً، وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعاً. فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك، وأما تنصيصه على الأزواج والذرية، فلا يدل على اختصاص الآل بهم، بل هو حجة على عدم الاختصاص بهم، لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم، فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحق من دخل فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام، وعكسه، تنبيهاً على شرفه،وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع، لأنه من أحق أفراد النوع بالدخول فيه، وهنا للناس طريقان:
أحدهما : أن ذكر الخاص قبل العام أو بعده قرينة تدل على أن المراد بالعام ما عداه.
والطريق الثاني: أن الخاص ذكر مرتين مرة بخصوصه ومرة بشمول الاسم العام له تنبيهاً على مزيد شرفه، وهو كقوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [الأحزاب:7]، وقوله تعالى: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [البقرة: 98].
وأيضاً فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حق له ولآله دون سائر الأمة، ولهذا تجب عليه وعلى آله عند الشافعي رحمه الله وغيره كما سيأتي، وإن كان عندهم في الآل اختلاف، ومن لم يوجبها فلا ريب أنه يستحبها عليه وعلى آله، ويكرهها أو لا يستحبها لسائر المؤمنين، أو لا يجوزها على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله، فمن قال: إن آله في الصلاة هم كالأمة، فقد أبعد غاية الإبعاد.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع في التشهد السلام والصلاة، فشرع في السلام تسليم المصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم أولا وعلى نفسه ثانياً، وعلى سائر عباد الله الصالحين ثالثاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فإذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض ، وأما الصلاة فلم يشرعها إلا عليه وعلى آله فقط، فدل على أن آله هم أهله وأقاربه.وأيضاً فإن الله سبحانه أمرنا بالصلاة عليه بعد ذكر حقوقه وما خصه به دون أمته من حل نكاحه لمن تهب نفسها له، ومن تحريم نكاح أزواجه على الأمة بعده، ومن سائر ما ذكر مع ذلك من حقوقه وتعظيمه وتوقيره وتبجيله.
ثم قال تعالى: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [الأحزاب: 53]، ثم ذكر رفع الجناح عن أزواجه في تكليمهن آباءهن وأبناءهن ودخولهم عليهن، وخلوتهم بهن، ثم عقب ذلك بما هو حق من حقوقه الأكيدة على أمته، وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامه، مستفتحاً ذلك الأمر بإخباره بأنه هو وملائكته يصلون عليه، فسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : على أي صفة يؤذن هذا الحق؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها، لأن ذلك مما تقر به عينه، ويزيده الله به شرفاً وعلواً.ت صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
وأما من قال إنهم الأتقياء من أمته فهؤلاء هم أولياؤه، فمن كان منهم من أقربائه فهو من أوليائه، ومن لم يكن منهم من أقربائه، فهم من أوليائه، لا من آله.ت فقد يكون الرجل من آله وأوليائه، كأهل بيته والمؤمنين به من أقاربه، ولا يكون من آله ولا من أوليائه، وقد يكون من أوليائه وإن لم يكن من آله، كخلفائه في أمته الداعين إلى سنته ، الذابين عنه، الناصرين لدينه، وإن لم يكن من أقاربه. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إن أوليائي المتقون أين كانوا ومن كانوا ، وغلط بعض الرواة في هذا الحديث وقال: إن آل أبي ... بياض .
والذي غر هذا أن في الصحيح: إن آل بني ... ليسو لي بأولياء وأخلى بياضاً بين بني وبين ليسوا فجاء بعض النساخ فكتب على ذلك الموضع بياض يعني أنه كذا وقع ، فجاء آخر فظن أن بياض هو المضاف إليه فقال أبي بياض، ولا يعرف في العرب أبو بياض، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك، وإنما سمى قبيلة كبيرة من قبائل قريش، والصواب لمن قرأها في تلك النسخ أن يقرأها في تلك النسخ أن يقرأها إن آل بني بياض بضم الضاد من بياض لا بجرها. والمعنى : وثم بياض، أو هنا بياض. ونظير هذا ما وقع في كتاب مسلم في حديث جابر الطويل: ونحن القيامة - أي: فوق كذا انظر- ، وهذه الألفاظ لا معنى لها هنا أصلاً، وإنما هي من تخليط النساخ، والحديث بهذا السند والسياق في مسند الإمام أحمد : ونحن يوم القيامة على كوم أو تل فوق الناس فاشتبه على الناسخ التل أو الكوم، ولم يفهم ما المراد فكتب في الهامش انظر، وكتب هو أو غيره كذا فجاء آخر فجمع بين ذلك كله وأدخله في متن الحديث، سمعته من شيخنا أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله.
والمقصود أن المتقين هم أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه هم أحب إليه من آله. قال الله تعالى: وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [التحريم:4]، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة رضي الله عنها، قيل من الرجال؟ قال: أبوها متفق عليه.وذلك أن المتقين هم أولياء الله كما قال تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون [يونس: 61-62]، وأولياء الله سبحانه وتعالى أولياء لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وأما من زعم أن الآل هم الأتباع، فيقال: لا ريب أن الأتباع يطلق عليهم لفظ الآل في بعض المواضع بقرينة، ولا يلزم من ذلك أنه حيث وقع لفظ الآل يراد به الأتباع، لما ذكرنا من النصوص، والله أعلم
فصل : في اختلاف الناس في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال وبيانها مفصلة
فقيل : هم الذين حرمت عليهم الصدقة ، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها : أنهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه .
والثاني : أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والرواية عن أحمد واختيار ابن القاسم صاحب مالك .
والثالث : أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى بني غالب ، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك ، حكاه صاحب الجواهر عنه ، وحكاه اللخمي في التبصرة عن أصبغ ، ولم يحكه عن أشهب.
وهذا القول في الآل أعني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين ، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي .
والقول الثاني أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة ، حكاه ابن عبد البر في التمهيد قال في باب عبد الله بن أبي بكر، في شرح حديث أبي حميد الساعدي: استدل قوم بهذا الحديث على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصة، لقوله في حديث مالك عن نعيم المجمر، وفي غير ما حديث اللهم صل على محمد صل على محمد وأزواجه وذريته ، قالوا : فهذا تفسير ذلك الحديث ، ويبين أن آل محمد هم أزواجه وذريته ، قالوا : فجائز أن يقول الرجل لكل من كان من أزواج محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذريته صلى الله عليك، إذا واجهه ، وصلى الله عليه إذا غاب عنه ، ولا يجوز ذلك في غيرهم .
قالوا: والآل والأهل سواء ، وآل الرجل وأهله سواء ، وهم الأزواج والذرية بدليل هذا الحديث .
والقول الثالث : أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم ، وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله ، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره ، واختاره بعض أصحاب الشافعي ، حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقة ، ورجحه الشيخ محيي الدين النواوي في شرح مسلم واختاره الأزهري.
والقول الرابع : أن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته ، حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة .
فصل : في ذكر حجج هذه الأقوال ، وتبين ما فيها من الصحيح والضعيف
فأما القول الأول : وهو أن الآل من تحرم عليهم الصدقة على ما فيهم من الاختلاف ، فحجته من وجوه :
أحدها : ما رواه البخاري في صحيحه : من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالنخل عند صرامه ، فيجيء هذا بتمرة وهذا بتمرة حتى يصير عنده كوم من تمر ، فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر ، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه ، فقال : أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة ، ورواه مسلم وقال : إنا لا تحل لنا الصدقة.
الثاني : ما رواه مسلم في صحيحه : عن زيد بن أرقم ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال : أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل، وإني تارك فيك ثقلين : أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، وقال : وأهل بيتي : أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي .
فقال له حصين بن سبرة : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس . قال: أكل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال: نعم .وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصدقة لا تحل لآل محمد .
الدليل الثالث : ما في الصحيحين : من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن فاطمة رضي الله عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم . فقال أبو بكر رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل .
فآله صلى الله عليه وسلم لهم خواص : منها حرمان الصدقة ، ومنها أنهم لا يرثونه ، ومنها استحقاقهم خمس الخمس ، ومنها اختصاصهم بالصلاة عليهم.
وقد ثبتت أن تحريم الصدقة واستحقاق خمس الخمس وعدم توريثهم مختص ببعض أقاربه صلى الله عليه وسلم فكذلك الصلاة على آله.
الدليل الرابع : ما رواه مسلم : من حديث ابن شهاب ، عن عبدت الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي ، أن عبد المطلب بن ربيعة أخبره، أن أباه ربيعة بن الحارث، قال لعبد المطلب بن ربيعة، وللفضل بن العباس رضي الله عنهما: ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولا له استعملنا يا رسول الله على الصدقات - فذكر الحديث - وفيه : فقال لنا : إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد
الدليل الخامس : ما رواه مسلم في صحيحه : من حديث عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، - فذكر الحديث - وقال فيه : فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكبش، فأضجعه، ثم ذبحه ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد ، ومن أمة محمد . ثم ضحى به
هكذا رواه مسلم بتمامه، وحقيقة العطف المغايرة، وأمته صلى الله عليه وسلم أعم من آله .
قال أصحاب هذا القول: وتفسير الآل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تفسيره بكلام غيره .
فصل : في الاحتجاج للقول بأن آل النبي صلى الله عليه وسلم ذريته وأزواجه خاصة
وأما القول الثاني : أنهم ذريته وأزواجه خاصة، فقد تقدم احتجاج ابن عبد البر له، بأن في حديث أبي حميد اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ، وفي غيره من الأحاديث : اللهم صل على محمد وعلى وأزواجه وذريته ، وفي غيره من الأحاديث اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، وهذا غايته أن يكون الأول منهما قد فسره اللفظ الآخر.ت واحتجوا أيضاً بما في الصحيحين : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ومعلوم أن هذه الدعوة المستجابة لم تنل كل بني هاشم ولا بني المطلب ، لأنه كان فيهم الأغنياء وأصحاب الجدة وإلى الآن . وأما أزواجه وذريته صلى الله عليه وسلم فكان رزقهم قوتاً ، وما كان يحصل لأزواجه بعد من الأموال كن يتصدقن به ويجعلن رزقهن قوتاً . وقد جاء عائشة رضي الله عنها مال عظيم فقسمته كله في قعدة واحدة، فقالت لها الجارية : لوخبيت لنا منه درهماً نشتري به لحماً؟ فقالت لها: لو ذكرتني فعلت.
واحتجوا أيضاً بما في الصحيحين : عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عز وجل . قلوا: ومعلوم أن العباس وأولاده وبني المطلب لم يدخلوا في لفظ عائشة ولا مرادها.
قال هؤلاء : وإنما دخل الأزواج في الآل، وخصوصاً أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تشبيهاً لذلك بالسبب، لأن اتصالهن بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرتفع، وهن محرمات على غيره في حياته وبعد مماته،ت وهن زوجاته في الدنيا والآخرة، فالسبب الذي لهن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عليهن، ولهذا كان القول الصحيح، وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله: أن الصدقة تحرم عليهن ، لأنها أوساخ الناس، وقد صان الله سبحانه ذلك الجناب الرفيع وآله من كل أوساخ بني آدم، ويالله العجب كيف يدخل أزواجه في قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ، وقوله في الأضحية: اللهم هذا عن محمد وآل محمد، وفي قول عائشة رضي الله عنها : ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز بر وفي قول المصلي : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ولا يدخلن في قوله: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد مع كونها من أوساخ الناس، فأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصيانة عنها والبعد منها.
فإن قيل : لو كانت الصدقة حراماً عليهن لحرمت على مواليهن، كما أنها لما حرمت على بني هاشم على مواليهم، وقد ثبت في الصحيح أن بريرة تصدق عليها بلحم فأكلته، ولم يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مولاة لعائشة رضي الله عنها.
قيل: هذا هو شبهة من أباحها لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
وجواب هذه الشبهة: أن تحريم الصدقة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليس بطريق الأصالة، وإنما هو تبع لتحريمها عليه صلى الله عليه وسلم وإلا فالدقة حلال لهن قبل اتصالهن به، فهن فرع في هذا التحريم على المولى فرع التحريم على سيده، فلما كان التحريم على بني هاشم أصلاً استتبع ذلك مواليهم/ ولما كان التحريم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً ، لم يقو ذلك على استتباع مواليهن، لأنه فرع عن فرع.
قالوا: وقد قال الله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما * يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة [ الأحزاب: 30 -34 ].
فدخلن في أهل البيت لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن، فلا يجوز إخراجهن من شيء ، والله أعلم.
فصل : في الاحتجاج لمن يقول : آل الرسول أمته و أتباعه إلى يوم القيامة
وأما القول الثالث: وهو أن آل النبي صلى الله عليه وسلم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة فقد
فقدت احتج له بأن آل المعظم المتبوع هم أتباعه على دينه وأمره، قريبهم وبعيدهم.
قالوا: واشتقاق هذه اللفظة تدل عليه ، فإنه من آل يؤول إذا رجع، ومرجع الأتباع إلى متبوعهم لأنه إمامهم وموئلهم.
قالوا: ولهذا كان قوله تعالى: إلا آل لوط نجيناهم بسحر [القمر: 34]، المراد به أتباعه وشيعته المؤمنون به من أقاربه وغيرهم . وقوله تعالى: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر: 46]،المراد به أتباعه.
واحتجوا أيضاً بأن وائلة بن الأسقع روى : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا حسناً وحسيناً، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة رضي الله عنها من حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهلي، قال واثلة : فقلت يا رسول الله، وأنا من أهلك؟ فقال: وأنت من أهلي ورواه البيهقي بإسناد جيد.
قالوا: ومعلوم أن واثلة بن الأسقع من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، وإنما هو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم
..............................