الثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه ، ويزيد في تشريفه وتكريمه وإيثاره ذكره، ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه ، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو ، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على ما يحبه هو، وقد آثر الله ومحابه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره، واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب والمنزلة عندهم ، فإنهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه ، وكلما سألوه أن يزيد في أحبائه وإكرامه وتشريفه ، علت منزلتهم عنده، وازداد قربهم منه ، وحظوا بهم لديه، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه،
فأحبهم إليه أشدهم له سؤلاً ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، هذا أمر مشاهد بالحس ، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة المطاع حوائجه هو وهو فارغ من سؤله تشريف محبوبه والإنعام عليه واحدة فكيف بأعظم محب وأجله لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه له؟ ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفاً.
وها هنا نكتة حسنة لمن علم أمته دينه وما جاءهم به، ودعاهم إليه وحضهم عليه ، وصبر على ذلك ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له من الأجر الزائد على أجر عمله مثل أجور من اتبعه ، فالداعي إلى سنته ودينه، والمعلم الخير للأمة إذا قصد توفير هذا الحظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفه إليه، وكان مقصوده بدعاء الخلق إلى الله التقرب إليه بإرشاد عباده، وتوفير أجور المطيعين له على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفيتهم أجورهم كاملة كان له من الأجر في دعوته وتعليمه بحسب هذه النية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
الباب الخامس: في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم
أما سائر الأنبياء والمرسلين فيصلى عليه ويسلم . قال تعالى عن نوح عليه السلام: وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين [الصافات: 78-80]، وقال عن إبراهيم خليله: وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم [الصافات: 108-109]، وقال تعالى في موسى وهارون: وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون ، [الصافات: 119-120]، وقال تعالى: سلام على إل ياسين [الصافات: 130، فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسرين، منهم مجاهد وغيره: وتركنا عليهم في الآخرين: الثناء الحسن، ولسان الصدق للأنبياء كلهم، وهذا قول قتادة أيضاً. ولا ينبغي أن يحكى هذا قولان للمفسرين، كما يفعله من له عناية بحكاية الأقوال. بل هما قول واحد، فمن قال: إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه، فلا ريب أن قوله: سلام على نوح جملة في موضع نصب بتركنا ، والمعنى أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء ، ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن، نظر إلى لازم السلام وموجبة، وهو الثناء عليهم ، وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم.
وقد زعمت طائفة ، منهم ابن عطية وغيره: أن من قال: تركنا عليه ثناء حسناً ولسان صدق ، كان سلام على نوح في العالمين جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب ، وهو سلام من الله سلم به عليه . قالوا: فهذا السلام من الله أمنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر ، قاله الطبري ، وقد يقوي هذا القول أنه سبحانه أخبر أن المبروك عليه هو في الآخرين، وأن السلام عليه في العالمين ، وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أبقى الله عليه ثناء حسناً.
وهذا القول ضعيف لوجوه:
أحدها: أنه يلزم منه حذف المفعول لـ تركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على هذا التقدير ، فإن المعنى يؤول إلى أنا تركنا عليه في الآخرين أمراً لا ذكر له في اللفظ ، لأن السلام عند هذا القائل منقطع بما قبله لا تعلق له بالفعل.
الثاني: أنه لو كان المفعول محذوفاً كما ذكره ، لذكروه في موضع واحد ليدل على المراد منه عند حذفه ، ولم يطرد حذفه في جميع من أخبر أنه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن، وهذه طريقة القرآن، بل وكل كلام فصيح أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر لدلالة المذكور على المحذوف، وأكثر ما تجده مذكوراً، وحذفه قليل ، وأما أن يحذف حذفاً مطرداً ولم يذكره في موضع واحد ولا في اللفظ ما يدل عليه، فهذا لا يقع في القرآن.
الثالث: أن في قراءة ابن مسعود: وتركنا عليه في الآخرين * سلام بالنصب ، وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه.
الرابع : أنه لو كان السلام منقطعاً مما قبله لأخل ذل بفصاحة الكلام وجزالته، ولما حسن الوقوف على ما قبله ، وتأمل هذا بحال السامع
إذا سمع قوله: وتركنا عليه في الآخرين كيف يجد قلبه متشوقا متطلعاً إلى تمام الكلام، واجتناء الفائدة منه، ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمتت ليظمئن عندها ، بل يبقى طالباً لتمامها، وهو المتروك، فالوقف على الآخرين ليس بوقف تام.
فإن قيل : فيجوز حذف المفعول من هذا الباب، لأن ترك هنا بمعنى أعطى ، لأنه أعطاه ثناء حسناً أبقاه عليه في الآخرين ، ويجوز في باب أعطى ذكر المفعولين، وحذفهما، والاقتصار على أحدهما ، وقد وقع ذلك في القرآن كقوله: إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر:1] فذكرهما ، وقال تعالى : فأما من أعطى [ الليل: 5 ].، فحذفهما، وقال تعالى: ولسوف يعطيك ربك [الضحى:5]، فحذف الثاني ، واقتصر على الأول. وقال تعالى: ويؤتون الزكاة [ المائدة: 55] ، فحذف الأول واقتصر على الثاني.
قيل: فعل الإعطاء فعل مدح، فلفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله قطاء المعطى، والإعطاء إحسان ونفع وبر، فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل، فإن كان المقصود إيجاد ماهية الإعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع المنافي للإحسان ذكر الفعل مجرداً، كما قال تعالى : فأما من أعطى واتقى [الليل:5 ] ، ولم يذكر ما أعطى ولا من أعطى وتقول : فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع، لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى ، بل المقصود أن حقيقة العطاء والمنع إليك لا إلى غيرك ، بل أنت المتفرد بها لا يشركك فيها أحد، فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته، وإذا كان المقصود ذكرهما ذكراً معاً، كقوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر:1]، فإن المقصود إخباره لرسوله صلى الله عليه وسلم بما خصه به وأعطاه إياه من الكوثر، ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين، وكذا قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً [ الإنسان:8]، وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه، كقوله تعالى: ويؤتون الزكاة [ المائدة: 55].
المقصود به أنهم يفعلون هذا الواجب عليهم ولا يهملونه، فذكره لأنههم المقصود، وقوله عن أل النار لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين [ المدثر 43-44 ]، لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للإطعام أنهم بخلوا عنه، ومنعوه حقه من الإطعام، وقست قلوبهم عنه، كان ذكره هو المقصود دون المطعوم.
وتدبر هذه الطريقة في القرآن وذكره للأهم المقصود وحذفه لغيره يطلعك على باب من أبواب إعجازه، وكمال فصاحته.
وأما فعل الترك فلا يشعر بشيء من هذا ولا يمدح به فلو قلت: فلان يترك ، لم يكن مفيداً فائدة أصلا ، بخلاف قولك : يطعم ويعطي ويهب ونحوه. بل لا بد أن تذكر ما يترك، ولهذا لا يقال: فلان تارك. ويقال: معط ومطعم، ومن أسمائه سبحانه: المعطي ، فقياس ترك على أعطى من أفسد القياس و سلام على نوح يعني يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت : سورة أنزلناها.
الخامس: أنه قال: سلام على نوح في العالمين فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين ، ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه، كلهم يسلم عليه ، ويثني عليه، ويدعو له، فذكره بالسلام عليه فيهم، وأما سلام الله سبحانه عليه فليس مقيداً بهم، ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك ، فلا يقال: السلام على رسول الله في العالمين، ولا اللهم سلم على رسولك في العالمين، ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به
وأما قولهم: إن الله سلم عليه في العالمين، وترك عليه في الآخرين، فالله سبحانه وتعالى أبقى على أنبيائه ورسله سلاماً وثناءً حسناً فيمن تأخر بعدهم جزاء على صبرهم ، وتبليغهم رسالات ربهم ، واحتمالهم للأذى من أممهم في الله، وأخبر أن هذا المبروك على نوح هو عام في العالمين ، وأن هذه التحية ثابتة فيهم جميعاً ، لا يخلون منها، فأدامها عليه في الملائكة والثقلين، طبقاً بعد طبق ، وعالماً بعد عالم، مجازاة لنوح عله السلام بصبره، وقيامه بحق ربه ، وبأنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه ، كما قال تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً الآية [ الشورى:13].
وقولهم : إن هذا قول ابن عباس، فقد تقدم أن ابن عباس وغيره إنما أرادوا بذلك أن السلام عليه من الثناء الحسن ، ولسان الصدق ، فذكروا معنى السلام عليه وفائدته ، والله سبحانه أعلم.
وأما الصلاة عليهم، فقال إسماعيل بن إسحاق في كتابه: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عمر بن هارون ، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلوا على أنبياء الله ورسله ، فإن الله بعثهم كما بعثني صلى الله عليهم وسلم تسليماً.
رواه الطبراني : عن الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن الثوري، عن موسى.
وقال الطبراني: حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي، حدثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني .
وفي الباب عن أنس، وقيل: عن أنس، عن أبي طلحة.
قال الحافظ أبو موسى المديني: وبلغني بإسناد عن بعض السلف، أنه رأى آدم في المنام كأنه يشكو قلة صلاة بنيه عليه صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
وموسى وإن كان ضعيفاً فحديثه يستأنس به.
وقد حكى غير واحد الإجماع على أن الصلاة على جميع النبيين مشروعة،منهم الشيخ محيي الدين النووي- رحمه الله - وغيره، وقد حكي عن مالك رواية أنه لا يصلى على غير نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولكن قال أصحابه: هو مؤولة بمعنى أنا لم نتعبد بالصلاة على غيره من الأنبياء ، كما تعبدنا الله بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
فصل في الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأقوال العلماء في ذلك
وأما من سوى الأنبياء ، فإن آل النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليهم بغير خلاف بين الأمة.
واختلف موجبو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في وجوبها على آله على قولين مشهورين لهم، وهي طريقتان للشافعية:
إحداهما: أن الصلاة واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وفي وجوبها على الآل قولان للشافعي، هذه طريقة إمام الحرمين والغزالي.
والطريقة الثانية: أن في وجوبها على الآل وجهين، وهي الطريقة المشهورة عندهم ، والذي صححوه أنها غير واجبة عليهم.
واختلف أصحاب أحمد في وجوب الصلاة على آله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك وجهان لهم، وحيث أوجبوها فلو أبدل لفظ الآل بالأهل فقال : اللهم صل على محمد وأهل محمد ففي الإجزاء وجهان.
وحكى بعض أصحاب الشافعي الإجماع على أن الصلاة على الآل مستحبة لا واجبة ، ولا يثبت في ذلك إجماع.
فصل: في الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً
وهل يصلي على آله صلى الله عليه وسلم منفردين عنه؟ فهذه المسألة على نوعين:
أحدهما: أن يقال: اللهم صل على آل محمد فهذا يجوز، ويكون صلى الله عليه وسلم داخلاً في آله، فالإفراد عنه وقع في اللفظ لا في المعنى.
الثاني: أن يفرد واحد منهم بالذكر، فيقال: اللهم صل على علي، أو على حسن، أو حسين، أو فاطمة ، ونحو ذلك . فاختلف في ذلك وفي الصلاة على غير آله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم ، فكرة ذلك مالك، وقال : لم يكن ذلك من عمل من مضى، وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً ، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وبه قال طاووس.
وقال ابن عباس: لا ينبغي الصلاة إلا على النبي صلى الله عليه وسلم .
قال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني عثمان بن حكيم بن عبادة بن حنيف، عن كرمة ، عن ابن عباس، أنه قال: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار. وهذا عمر بن عبد العزيز.
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا حسن بن علي ، عن جعفر بن برقان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاءك كتابي فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ، ودعاؤهم للمسلمين عامة.
وهذا مذهب أصحاب الشافعي، ولهم ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منع تحريم.
والثاني: وهو قول الأكثرين ، أنه منع كراهة تنزيه.
والثالث: أنه من باب ترك الأولى وليس بمكروه. حكاها النووي في الأذكار قال: والصحيح الذي عليه الأكثر أنه مكروه كراهة تنزيه. ثم اختلفا في السلام هل هو في معنى الصلاة، فيكره أن يقال: السلام على فلان. أو قال: فلان عليه السلام، فكرهه طائفة ، منهم أبو محمد الجويني ومنع أن يقال: عن علي - عليه السلام- وفرق آخرون بينه وبين الصلاة، فقالوا: السلام يشرع في حق كل مؤمن حي وميت وحاضر وغائب، فإنك تقول: بلغ فلاناً مني السلام، وهو تحية أهل الإسلام، بخلاف الصلاة فإنها من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، ولهذا يقول المصلي: السلام علينا وعلىعباد الله الصالحين، ولا يقول: الصلاة علينا وعلى عباد الله الصالحين فعلم الفرق.
واحتج هؤلاء بوجوه:
أحدها: قول ابن عباس، وقد تقدم الثاني: أن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله قد صارت شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم ، ذكره النووي.
قلت: ومعنى ذلك، أن الرافضة إذا ذكروا أثمنهم يصلون عليهم بأسمائهم ولا يصلون على غيرهم ممن هو خير منهم، وأحب إلى الرسول ، فينبغي أن يخالفوا في هذا الشعار.
الثالث: ما احتج به مالك رحمه الله ، أن هذا لم يكن من عمل من مضى من الأمة، ولو كان خيراً لسبقوا إليه.
الرابع: أن الصلاة قد صارت مخصوصة في لسان الأمة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، تذكر مع ذكر اسمه، كما صار عز وجل و سبحانه وتعالى مخصوصاً بالله عز وجل ، يذكر مع ذكر اسمه، ولا يسوغ أن يستعمل ذلك لغيره، فلا يقال: محمد عز وجل، ولا سبحانه وتعالى، فلا يعطى المخلوق مرتبة الخالق، فهكذا لا ينبغي أن يعطى غير النبي صلى الله عليه وسلم مرتبته ، فيقال: قال فلان صلى الله عليه وسلم .
الخامس: أن الله سبحانه قال: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً [النور:
63]، فأمر سبحانه أن لا يدعى باسمه كما يدعى غيره باسمه ، فكيف يسوغ أن تجعل الصلاة عليه كما تجعل على غيره في دعائه، والإخبار عن ؟ هذا مما لا يسوغ أصلاً.
السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته في التشهد أن يسلموا على عباده الصالحين، ثم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلم أن الصلاة عليه حقه الذي لا يشركه في أحد.
السابع: أن الله سبحانه ذكر الأمر بالصلاة عليه في معرض حقوقه وخواصه التي خصه بها من تحريم نكاح أزواجه، وجواز نكاحه لمن وهبت نفسها له ، وإيجاب اللعنة لمن آذاه، وغير ذلك من حقوق، وأكدها بالأمر بالصلاة عليه والتسليم، فدل على أن ذلك حق له خاصة ، فآله تبع له فيه.
الثامن: أن الله سبحانه شرع للمسلمين أن يدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض، ويترحم عليه في حياته وبعد موته، وشرع لنا أن نصلي عل النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته، فالدعاء حق للمسلمين، والصلاة حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر، ولهذا في صلاة الجنازة إنما يدعى للميت ويترحم عليه ويستغفر له، ولا يصلي عليه بدل ذلك، فيقال: اللهم صل عليه وسلم.
وفي الصلوات يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يقال بدل ذلك: اللهم اغفر له وارحمه. ونحو ذلك، بل يعطى كل ذي حق حقه.
التاسع: أن المؤمن أحوج الناس إلى أن يدعى له بالمغفرة والرحمة، والنجاة من العذاب، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فغير محتاج أن يدعى له بذلك، بل الصلاة عليه زيادة في تشريف الله وتكريمه ورفع درجاته ، وهذا حاصل له صلى الله عليه وسلم ، وإن غفل عن ذكره الغافلون، فالأمر بالصلاة عليه إحسان من الله للأمة ورحمة بهم لينيلهم كرامته بصلاتهم على رسوله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف غيره من الأمة ، فإنه محتاج إلى من يدعو له ويستغفر ويترحم عليه، ولهذا جاء الشرع بهذا في محله ، وهذا في محله.
العاشر: أنه لو كانت الصلاة على غيره صلى الله عليه وسلم سائغة ، فإما أن يقال باختصاصها ببعض الأمة ، أو يقال تجوز على كل مسلم.
فإن قيل: باختصاصها فلا وجه له ، وهو تخصيص من غير مخصص ، وإن قيل بعدم الاختصاص وأنها تسوغ بكل من يسوغ الدعاء له فحينئذ تسوغ الصلاة على المسلم وإن كان من أهل الكبار، فكما يقال: اللهم تب عليه ، اللهم اغفر له ، يقال : اللهم صل عليه ، وهذا باطل.
وإن قيل: تجوز على الصالحين دون غيرهم، فهذا مع أنه لا دليل عليه ، ليس له ضابط، فإن كون الرجل صالحاً أو غير صالح وصف يقبل الزيادة والنقصان ، وكذلك كونه ولياً لله ، وكونه متقياً ، وكونه مؤمناً، وكل ذلك يقبل الزيادة والنقصان، فما ضابط من يصلى عليه من الأمة ومن لا يصلى عليه؟.
قالوا: فعلم بهذه الوجوه العشرة اختصاص الصلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله. وخالفهم في ذلك آخرون ، وقالوا: تجوز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله.
قال القاضي أبو الحسين بن الفراء في رؤوس مسائله: وبذلك قال الحسن البصري، وخصيف، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان، وكثير من أهل التفسير ، قال: وهو قول الإمام أحمد رحمه الله، نص عليه في رواية أبي داود ، وقد سئل: أينبغي أن يصلى على أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أليس قال علي لعمر- رضي الله عنهما -: صلى الله عليك.
قال: وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور ، و محمد بن جرير الطبري، وغيرهم ، وحكى أبو بكر بن أبي داود، عن أبيه ذلك، قال أبو الحسين: وعلى هذا العمل، واحتج هؤلاء بوجوه:
أحدها: قوله سبحانه وتعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم [التوبة: 103]، فأمر سبحانه أن يأخذ الصدقة من الأمة وأن يصلي عليهم، ومعلوم أن الأئمة بعده يأخذون الصدقة كما كان يأخذها، فيشرع لهم أن يصلوا على المتصدق كما كان يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أن في الصحيحين: من حديث شعبة ، عن عمر ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم ، قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته ، فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى.
والأصل عدم الاختصاص، وهذا ظاهر في أنه هو المراد من الآية.
الثالث: ما رواه حجاج ، عن أبي عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيه العنزي، عن جابر بن عبد الله، أن امرأة قالت: يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك ، رواه أحمد، وأبو داود في السنن
الرابع: ما رواه ابن سعد في كتاب الطبقات : من حديث ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله ، أن علياً دخل على عمر وهو مسجى ، فملا انتهى إليه قال: صلى الله عليك ، ما أحد ألقى إلى الله بصحيفته أحب إلى من هذا المسجى بينكم.
الخامس: ما رواه إسماعيل بن إسحاق: حدثنا عند الله بن مسلم، حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يكبر على الجنازة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يقول: اللهم بارك فيه، وصل عليه ، واغفر له ، وأورده حوض نبيك صلى الله عليه وسلم .
السادس : أن الصلاة هي الدعاء ، وقد أمرنا بالدعاء بعضنا لبعض، احتج بهذه الحجة أبو الحسين.
السابع: ما رواه مسلم في صحيحه : من حديث حماد بن زيد ، عن بديل، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة، قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها. قال حماد : فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك. قال: ويقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه.. وذكر الحديث. هكذا قال مسلم عن أبي هريرة موقوفاً، وسياقه يدل على أنه مرفوع ، فإنه قال بعده : وأن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعناً، ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض. قال : فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبو هريرة : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت على أنفه هكذا.
وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم بالحديث.
وقد رواه جماعة عن أبي هريرة مرفوعاً، منهم أبو سلمة ، وعمر بن الحكم، وإسماعيل السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة ، وسعيد بن يسار، وغيرهم.
وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب الروح .
قالوا: فإذا كانت الملائكة تقول للمؤمن : صلى الله عليك جاز ذلك أيضاً للمؤمنين، بعضهم لبعض.
الثامن : قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير وقد قال تعالى: هو الذي يصلي عليكم وملائكته [الأحزاب:43].
التاسع: ما رواه أبو داود: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف وفي حديث آخر عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ولملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف . وقد تقدم في أول الكتاب صلاة الملائكة على من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم .
العاشر: ما احتج به القاضي أبو يعلى ، ورواه بإسناد، من حديث مالك بن يخامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ، أنه قال: اللهم صل على أبي بكر فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عمر فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عثمان فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على علي فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على أبي عبيدة فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عمرو بن العاص فإنه يحب الله ورسوله .
الحادي عشر: ما رواه يحيى بن يحيى في موطئه عن مالك، عن عبد الله بن دينار، قال : رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. هذا لفظ يحيى بن يحيى.
الثاني عشر: أنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أزواجه في الصلاة، وقد تقدم.
قالوا: وهذا على أصولكم ألزم، فإنكم لم تدخلوهن في آله الذين تحرم عليهم الصدقة ، فإذا جازت الصلاة عليهن جازت على غيرهن من الصحابة رضي الله عنهم.
الثالث عشر : أنكم قد قلتم بجواز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً له فقلتم بجواز أن يقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وعلى أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه. قال أبو زكريا النووي: واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء تبعاً لهم في الصلاة ، ثم ذكر هذه الكيفية وقال: للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أمرنا به في التشهد ، ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة أيضاً.
قلت: ومنه الأثر المعروف عن بعض السلف: اللهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين من أهل السماوات والأرضين.
الرابع عشر: ما رواه أبو يعلى الموصلي: عن أبي زنجويه، حدثنا أبو المفغيرة، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، حدثنا ضمرة بن حبيب بن صهيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه وعلمه دعاء ، وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، قال:
قل حين تصبح: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ، والخير في يديك ومنك وإليك، اللهم ما قلت من قول أو نذرت من نذر، أو حلفت من حلف فمشيئتك بين يديه، ما شئت منه كان وما لم تشأ لم يكن ، ولا حول ولا قوة إلا بك، أنت على كل شيء قدير ، اللهم وما صليت من صلاة فعلى من صليت ، وما لعنت من لعن فعلى من لعنت ، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. ووجه الاستدلال: أنه لو لم تشرع الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم ما صح الاستثناء فيها، فإن العبد لما كان يصلي على من ليس بأهل للصلاة ولا يدري استثنى ذلك كما استثنى في حلفه ونذره.
قال الأولون: الجواب عما ذكرتم من الأدلة ، أنها نوعان : نوع منها صحيح وهو غير متناول لمحل النزاع ، فلا يحتج به، ونوع غير معلوم الصحة فلا يحتج به ، ونوع غير معلوم الصحة فلا يحتج به ، ونوع غير معلوم الصحة فلا يحتج به أيضاً، وهذا إنما يظهر بالكلام على كل دليل دليل.
أما الدليل الأول: وهو قوله تعالى: وصل عليهم فهذا في غير محل النزاع/ لأن كلامنا هل يشرع لأحدنا أن يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله أم لا؟. وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على من صلى عليه فتلك مسألة أخرى، فأين هذه من صلاتنا عليه التي أمرنا بها قضاء لحقه، هل يجوز أن يشرك معه غيره أم لا؟.
يؤكده الوجه الثاني: أن الصلاة عليه حق له صلى الله عليه وسلم ، يتعين على الأمة أداؤه والقيام به، وأما هو صلى الله عليه وسلم فيخص من أراد ببعض ذلك الحق، وهذا كما تقول في شاتمه ومؤذيه: إن قتله حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على الأمة القيام به واستيفاؤه، وإن كان صلى الله عليه وسلم يعفو عنه حين مكان يبلغه ويقول : رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر .
وبهذا حصل الجواب عن الدليل الثاني أيضا وهو قوله : اللهم صل على آل أبي أوفي ، وعن الدليل الثالث أيضا, وهو صلاته على تلك المرأة وزوجها .
وأما دليلكم الرابع : وهو قول علي لعمر _ رضي الله عنهما_: صلى الله عليك . فجواته من وجوه:
أحدها: انه قد اختلف على جعفر بن محمد في هذا الحديث , فقال أنس بن عياض: عن جعفر بن محمد , عن أبيه , أن عليا لما غسل عمر وكفن وحمل على سريره , وقف عليه ، أثنى عليه ، وقال:
والله ما على الأرض رجل أحب إلي أن ألقي الله بصحيفته من هذا المسجى بالثوب .
وكذلك رواه محمد ويعلى ابنا عبيد , عن حجاج الواسطي , عن جعفر , ولم يذكر هذه اللفظة
ورواه ورقاء بن عمرو , عن عمرو بن دينار , عن أبي جعفر , ولم يذكر لفظه الصلاة . بل قال:رحمك الله , وكذلك رواه عارم بن الفضل , عن أيوب وعمر بن دينار , وأبي جهضم , قالوا: لما مات عمر فذكروا الحديث دون لفظ الصلاة وكذلك رواه قيس بن الربيع , عن قيس بن مسلم , عن ابن الحنفية .
الثاني : أن الحديث الذي فيه الصلاة لم يسنده ابن سعد , بل قال في الطبقات : أخبرنا بعض أصحابنا : عن سفيان بن عيينة , أنه سمع منه هذا الحديث عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله, فذكره, وقال: لما انتهى اله, فقال له: صلى الله عليك, وهذا المبهم لعله لم يحفظه. فلا يحتج به.
الثالث: أنه معارض بقول ابن عباس رضي الله عنهما : لا ينبغي الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم , وقد تقدم.
قالوا: وأما دليلكم الخامس وهو قول ابن عمر في صلاة الجنازة اللهم صل عليه فجوابه من وجوه:
أحدها: أن نافع بن أب نعيم ضعيف عندهم في الحديث، وإن كان في القراءة إماماً، قال الإمام أحمد : يؤخذ عنه القرآن ، وليس في الحديث بشيء.
والذي يدل على أن هذا ليس بمحفوظ عن ابن عمر، أن مالكاً في موطئه لم يروه عن ابن عمر، وإنما روى أثراً عن أبي هريرة، فلو كان هذا عند نافع مولاه، لكان مالك أعلم به من نافع ابن أبي نعيم.
الثاني: أن قول ابن عباس يعارض ما نقل عن ابن عمر.
وأما دليلكم السادس أن الصلاة دعاء، وهو مشروع لكل مسلم، فجوابه من وجوه :
أحدها : أنه دعاء مخصوص، مأمور به في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يدل على جواز أن يدعى به لغيره، لما ذكرنا من الفروق بين الدعاء وغيره، مع الفرق العظيم بين الرسول وغيره، فلا يصح الإلحاق به، لا في الدعاء ولا في المدعو له صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أنه كما لا يصح أن يقاس عليه دعاء غيره لا يصح أن يقاس على الرسول صلى الله عليه وسلم غيره فيه.
الثالث: أنه ما شرع في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لكونه دعاء، بل لأخص من مطلق الدعاء، وهو كونه صلاة متضمنة لتعظيمه وتمجيده والثناء عليه كما تقدم تقريره، وهذا أخص من مطلق الدعاء.
وأما دليلكم السابع: وهو قول الملائكة لروح المؤمن: صلى الله عليك وعلى حسد كنت تعمرينه. فليس بمتناول لمحل النزاع، فإن النزاع إنما هو هل يسوغ لأحدنا أن يصلي على غير الرسول وآله صلى الله عليه وسلم ، وأما الملائكة فليسوا بداخلين تحت أحكام تكاليف البشر حتى يصح قياسهم عليه فيما يقولونه أو يفعلونه، فأين أحكام الملك من أحكام البشر: فالملائكة رسل الله في خلقه وأمره ، يتصرفون بأمره لا بأمر البشر، وبهذا خرج الجواب عن كل دليل فيه صلاة الملائكة.
وأما قولكم: إن الله يصلي على المؤمنين وعلى معلمي الناس الخير.
فجوابه: أنه في غير محل النزاع، وكيف يصح قياس فعل العبد على فعل الرب؟ وصلاة العبد دعاء وطلب، وصلاة الله على عبده ليست دعاء، وإنما هي إكرام وتعظيم ومحبة وثناء ، وأين هذا من صلاة العبد؟.
وأما دليلكم العاشر: وهو حديث مالك بن يخامر، وفيه صلاة النبي على أبي بكر وعمر ، ومن معهما، فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه لا علم لنا بصحة هذا الحديث، ولم تذكروا إسناده لننظر فيه
الثاني: أنه مرسل.
الثالث: أنه في غير محل النزاع، كما تقدم.
وأما دليلكم الحادي عشر: أن ابن عمر كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، وعلى أبي بكر س
أحدها: أن ابن عبد البر قال: أنكر العلماء على يحيى بن يحيى ومن تابعه في الرواية عن مالك، عن عبد الله بن دينار، رأيت، ابن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر، وقالوا: إنما الرواية لمالك وغيره، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ، أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأبي بكر وعمر. كذلك رواه ابن القاسم , والقعنبي , وابن بكير وغيرهم عن مالك , ففرقوا بما وصفت لك بين : ويدعو لأبي بكر, وعمر وبين يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت الصلاة قد تكون دعا ءً , لما خص به صلى الله عليه وسلم من لفظ الصلاة .
قلت: وكذلك هو في موطأ ابن وهب لفظ الصلاة مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم , والدعاء لصاحبه .
الثاني : أن هذا من باب الاستغناء عن أحد الفعلين بالأول منهما وإن كان غير واقع على الثاني,كقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً حتى غدت همالةً عيناها
وقول الآخر :
ورأيت زوجك قد غدا متقلداً سيفاً ورمحا
وقول الآخر:
وزججن الحواجب والعيونا
فلما كان الفعل الأول موافقاً للفعل الثاني في الجنس العام اكتفى به منه, لأن العلف موافق للسقي في التغذية , وتقلد السيف موافق لحمل الرمح في معنى الحمل, وتزجيج الحواجب موافق للدعاء لأبي بكر وعمر في معنى الدعاء والطلب .
الثالث : أن ابن عباس قد خالفه كما تقدم .
وأما دليلكم الثاني عشر : بالصلاة على أزواجه صلى الله عليه وسلم ففاسد، لأنه إنما صلى عليهن لإضافتهن إليه ودخولهن في آله وأهل بيته ، فهذه خاصة له، وأهل بيته وزوجاته تبع له فيها صلى الله عليه وسلم .
وأما قولكم: إنه ألزم على أصولنا، فإنا لا نقول بتحريم الصدقة عليهن، فجوابه: أن هذا وإن سل!م دل على أنهن لسن من الآل الذين تحرم عليهم الصدقة، لعدم القرابة التي يثبت بها التحريم، لكنهن من أهل بيته الذين يستحقون الصلاة عليهم، ولا منافاة بين الأمرين.
وأما دليلكم الثالث عشر: وهو جواز الصلاة على غيره صلى الله عليه وسلم تبعاً، وحكايتهم الاتفاق على ذلك ، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذا الاتفاق غير معلوم الصحة، والذين منعوا الصلاة على غير الأنبياء منعوها مفردة وتابعة، وهذا التفصيل وإن كان معروفاً عن بعضهم فليس كلهم يقوله.
الثاني: أنه لا يلزم من جواز الصلاة على أتباعه تبعاً للصلاة عليه جواز إفراد المعي أو غيره بالصلاة عليه استقلالاً.
وقوله: للأحاديث الصحيحة في ذلك ، فليس في الأحاديث الصحيحة الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه وذريته، ليس فيها ذكر أصحابه ولا أتباعه في الصلاة.
وقوله: أمرنا بها في التشهد، فالمأمور به في التشهد الصلاة على آله وأزواجه لا غيرهما.
وأما دليلكم الرابع عشر: وهو حديث زيد بن ثابت الذي فيه: اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت، ففيه أبو بكر بن أبي مريم ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والسعدي، وقال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام، ولكنه كان رديء الحفظ يحدث بالشيء فيهم، وكثر ذلك حتى استحق الترك.
الخاتمة
وفصل الخطاب في هذه المسألة: أن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون آله وأزواجه وذريته أو غيرهم، فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجائزة مفردة/
وأما الثاني : فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموماً الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم، جاز ذلك أيضاً، فيقال: اللهم صل على ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين، وإن كان شخصاً معيناً أو طائفة معينة كره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً لا يخل به، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه، ولا سيما إذا جعلها شعاراً له، ومنع منها نظيره، أو من هو خير منه ، وهذا كما تفعل الرافضة بعلي رضي الله عنه، فإنه حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه ، فهذا ممنوع، لا سيما إذا اتخذ شعاراً لا يخل به ، فتركه حينئذ متعين، وأما إن صلى عليه أحياناً بحيث لا يجعل ذلك شعاراً كما يصلي على دافع الزكاة، وكما قال ابن عمر للميت: صلى الله عليه. وكما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة وزوجها، وكما روي عن علي من صلاته على عمر ، فهذا لا بأس به.
و بهذا التفصيل تتفق الأدلة وينكشف وجه الصواب والله والموفق.
تم بحمد الله الكتاب
...............................................