فصل: معنى الآل واشتقاقه وأحكامه
وفيه قولان : أحدهما : أن أصله أهل ، ثم قلبت الهاء همزة فقيل: آل، ثم سهلت على قياس أمثالها فقيل: آل. قالوا: ولهذا إذا صغر رجع إلى أصله فقيل: أهيل، قالوا: ولما كان فرعاً عن فرع خصوه ببعض الأسماء المضاف إليها، فلم يضيفوه إلى أسماء الزمان ولا المكان ولا غير الأعلام، فلا يقولون: آل رجل وآل امرأة، ولا يضيفونه إلى مضمر فلا يقال آله وآلي ، بل لا يضاف إلا إلى معظم، كما أن التاء لما كانت في القسم بدلاً عن الواو، وفرعاً عليها، والواو فرعاً من فعل القسم ، خصوا التاء بأشرف الأسماء وأعظمها، وهو اسم الله تعالى.وهذا القول ضعيف من وجوه:
أحدها : أنه لا دليل عليه.
الثاني: أنه يلزم منه القلب الشاذ من غير موجب ، مع مخالفة الأصل.
الثالث: أن الأهل تضاف إلى العاقل وغيره، والآل لا تضاف إلا إلى عاقل.
والرابع: أن الأهل تضاف إلى العلم والنكرة، والآل لا يضاف إلا إلى معظم من شأنه أن غيره يؤول إليه.
الخامس: أن الأهل تضاف إلى الظاهر والمضمر، والآل ، من النحاة من منع إضافته إلى المضمر، ومن جوزها فهي شاذة قليلة.
السادس: أن الرجل حيث أضيف إلى آله دخل فيه هو ، كقوله تعالى: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر:46]، وقوله تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين [آل عمران:33]، وقوله: إلا آل لوط نجيناهم بسحر [القمر:34].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أوفى هذا إذا لم يذكر معه من أضيف إليه الآل، وأما إذا ذكر معه فقد يقال ذكر مفرداً وداخلاً في الآل، وقد يقال ذكره مفرداً أغنى عن ذكره مضافاً، والأهل بخلاف ذلك، فإذا قلت : جاء أهل زيد، لم يدخل فيهم.
وقيل: بل أصله أول ، وذكره صاحب الصحاح في باب الهمزة والواو واللام، وقال: وآل الرجل أهله وعياله، وآله أيضاً: أتباعه ، وهو عند هؤلاء مشتق من آل يؤول : إذا رجع، فآل الرجل هم الذين يرجعون إليه ويضافون إليه ، ويؤولهم أي : يسوسهم، فيكون مآلهم إليه ، ومنه الإيالة وهي السياسة، فآل الرجل هم الذين يسوسهم ويؤولهم ، ونفسه أحق بذلك من غيره ، فهو أحق بالدخول في آله، ولكن لا يقال : إنه مختص بآله، بل هو داخل فيهم، وهذه المادة موضوعة لأصل الشيء وحقيقته ، ولهذا سمي حقيقة الشيء تأويله ، لأنها حقيقته التي يرجع إليها.
ومنه قوله تعالى: هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق [الأعراف:53]، فتأويل ما أخبرت به الرسل هو مجيء حقيقته ورؤيتها عياناً، ومنه تأويل الرؤيا، وهو حقيقتها عياناً ، ومنه تأويل الرؤيا الخارجية التي ضربت للرائي في عالم المثال، ومنه التأويل بمعنى العاقبة، كما قيل في قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء:59]، قيل : أحسن عاقبة ، فإن عواقب الأمور هي حقائقها التي تؤول إليها، ومنه التأويل بمعنى التفسير ، لأن تفسير الكلام هو بيان معناه وحقيقته التي يراد منه.
قالوا: ومنه الأول لأنه أصل العدد ومبناه الذي يتفرع منه ، ومنه الآل بمعنى الشخص نفسه ، قال أصحاب هذا القول: والتزمت العرب إضافته، فلا يستعمل مفرداً إلا في نادر الكلام، كقول الشاعر:
نحن آل الله في بلدتنا لم نزل آلاً على عهد إرم
والتزموا أيضاً إضافته إلى الظاهر، فلا يضاف إلى مضمر إلا قليلاً، وعد بعض النحاة إضافته إلى المضمر لحناً ، كما قال أبو عبد الله بن مالك، والصحيح أنه ليس بلحن ، بل هو من كلام العرب، لكنه قليل،
ومنه قول الشاعر:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي ، فما يحمي حقيقة آلكا؟
وقال عبد المطلب في الفيل وأصحابه:
وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك
فأضافه إلى الياء والكاف، وزعم بعض النحاة أنهلا يضاف إلا إلى علم من يعقل. وهذا الذي قاله هو الأكثر، وقد جاءت إضافته إلى غير من يعقل، قال الشاعر:
نجوت ولم يمنن علي طلاقه سوى زبد التقريب من آل أعوجا
وأعوج : علم فرس.
قالوا: ومن أحكامه أيضاً أنه لا يضاف إلا إلى متبوع معظم ، فلا يقال آل الحائك، وآل الحجام، ولا آل رجل.
فصل : في معنى الآل
وأما معناه فقالت طائفة: يقال آل الرجل له نفسه، وآل الرجل لمن يتبعه نفسه، وآله لأهله وأقاربه، فمن الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو أوفى بصدقته: اللهم صل على آل أبي أوفى ، وقوله تعالى سلام على إل ياسين [الصافات: 130]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، فآل إبراهيم هو إبراهيم ، لأن الصلاة المطلوبة للنبي صلى الله عليه وسلم هي الصلاة على إبراهيم نفسه وآله تبع له فيها. ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: لا يكون الآل إلا الأتباع والأقارب، وما ذكرتموه من الأدلة فالمراد بها الأقارب، وقوله: كما صليت على آل إبراهيم آل إبراهيم هنا هم الأنبياء، والمطلوب من الله سبحانه أن يصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم كما صلى على جميع الأنبياء من ذرية إبراهيم لا إبراهيم وحده، كما هو مصرح به في بعض الألفاظ من قوله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وأما قوله تعالى: سلام على إل ياسين [الصافات:130] فهذه فيها قراءتان
إحداهما : إلياسين بوزن إسماعيل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه اسم ثان للنبي إلياس، وإلياسن كميكال وميكائيل.
والوجه الثاني: أنه جمع ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع إلياس، وأصله إلياسيين ، بيائين كعبرانيين ، ثم خففت إحدى اليائين فقيل إلياسين، والمراد أتباعه، كما حكى سيبويه الأشعرون ومثله الأعجمون.
والثاني: أنه جمع إلياس محذوف الياء.
والقراءة الثانية: سلام على إل ياسين وفيه أوجه:
أحدها: أن ياسين أسم لأبيه فأضيف إليه الآل ، كما يقال آل إبراهيم.
والثاني : أن آل ياسين هو إلياس نفسه ، فيكون آل مضافة إلى يس، والمراد بالآل يس نفسه ، كما ذكر الأولون.
والثالث: أنه على حذف ياء النسب، فيقال: يس ، وأصله ياسيين ، كما تقدم ، وآلهم أتباعهم على دينهم.
والرابع: أن يس هو القرآن، وآله هم أهل القرآن.
والخامس: أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وآله أقاربه وأتباعه كما سيأتي.
وهذه الأقوال كلها ضعيفة، والذي حمل قائلها عليها استشكالهم إضافة آل إلى يس، واسمه إلياس وإلياسين، ورأوها في المصحف مفصولة، وقد قرأها بعض القراء: آل ياسين فقال طائفة منهم: له أسماء يس، وإلياسين، وإلياس ، وقالت طائفة: يس اسم لغيره، ثم اختلفوا، فقال الكلبي: يس محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالت طائفة: هو القرآن، وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه، والصواب واللع أعلم في ذلك أن أصل الكلمة آل إلياسين، كآل إبراهيم، فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال، ودلالة الاسم على موضع المحذوف ، وهذا كثير في كلامهم، إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها، فحذفوا منها ما لا إلباس في حذفه، وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال، ولهذا لا يحذفون النون من إني، وأني، وكأني، ولكني ولا يحذفونها من ليتني ولما كانت اللام في لعل شبيهة بالنون حذفوا النون معها، ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له، فيقولون مرة : إلياسين، ومرة إلياس ومرة ياسين وربما قالوا: ياس ويكون على إحدى القراءتين قد وقع المسلم عليه، وعلى القراءة الأخرى على آله ، وعلى هذا ففصل النزاع بين أصحاب القولين في الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه، كقوله تعالى : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر46]، ولا ريب في دخوله في آله هنا. وقوله: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين [الأعراف:130] ونظائره.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم صل على آل أبي أوفى ، ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك ، وقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، هذه أكثر روايات البخاري، وإبراهيم هنا داخل في آله، ولعل هذا مراد من قال: آل الرجل نفسه.
وأما إن ذكر الرجل ، ثم ذكر آله لم يدخل فيها ق بين اللفظ المجرد والمقرون، فإذا قلت: أعط لزيد وآل زيد، لم يكن زيد هنا داخلاً في آله ، وإذا قلت: أعطه لآل زيد تناول زيداً وآله، وهذا له نظائر كثيرة، قد ذكرناها في غير هذا الموضع، وهي أن اللفظ تختلف دلالته بالتجريد والاقتران، كالفقير والمسكين، هما صنفان إذا قرن بينهما، وصنف واحد إذا أفرد كل منهما، ولهذا كانا في الزكاة صنفين، وفي الكفارات صنف واحد ، وكالإيمان والإسلام، والبر والتقوى، والفحشاء والمنكر، والفسوق والعصيان، ونظائر ذلك كثيرة ولا سيما في القرآن.
بيان ترجمة زوجته الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها
وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنها، وعن أبيها، وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى، وهي بنت تسع سنين، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة رضي الله عنه سنة ثمان وخمسين.
ومن خصائصها: أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه كما ثبت عنه ذلك في البخاري وغيره، وقد سئل: أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة. قيل : فمن الرجال؟ قال: أبوها .
ومن خصائصها أيضاً: أنه لم يتزوج امرأة بكراً غيرها ومن خصائصها : أنه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها.
ومن خصائصها: أن الله عز وجل لما أنزل عليه آية التخيير بدأ بها فخيرها فقال: ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك . فقالت : بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وقلن كما قالت.
ومن خصائصها: أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبرائتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم، وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها من الإفك كان خيراً لها ، ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شراً لها ، ولا خافضاً من شأنها، بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها، وأعظم شأنها، وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء ، فيا لها من منقبة ما أجلها.
وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها . فهذه صديقة الأمة، وأم المؤمنين، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون لها، مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن صام يوماً أو يومين أو شهراً وشهرين، وقام ليلة أو ليلتين، وظهر عليه شيء من الأحوال، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات والمكاشفات والمخاطبات والمنازلات وإجابة الدعوات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم، ويغتنم صالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم، وتعظيمهم ـ وتعزيرهم، وتوقيرهم ، فيتمسح بأثوابهم، ويقبل ثرى أعتابهم، وأنهم من الله بالمكانة التي ينتقم لهم لأجلها ممن تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ ممن أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وأن الإساءة عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم، ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف ، وهذه الحماقات والرعونات نتائج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم ، فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وذنوبه، مغتر بإمهال الله له عن أخذه بما هو فيه من الكبر والإزراء على من لعله عند الله خير منه.
نسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة، وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيما وهو عند الله حقيراً.
ومن خصائصها رضي الله عنها : أن الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم كان إذا أشكل عليهم الأمر من الدين استفتوها ، فيجدون علمه عندها .
ومن خصائصها رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها، وفي يومها، وبين سحرها ونحرها ودفن في بيتها.
ومن خصائصها رضي الله عنها: كأن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في سرقة حرير، فقال: إن يكن هذا من عند الله يمضه .
ومن خصائصها رضي الله عنها : أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تقرباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيتحفونه بما يحب في منزل أحب نسائه إليه رضي الله عنهم أجمعين، وتكنى أم عبد الله ، وروى أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطاً، ولا يثبت ذلك .
ومن نسائه رضي الله عنهن حفصة بنت عمر بن الخطاب
* وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وعن أبيها، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدراً ، توفيت سنة سبع ، وقيل : ثمان وعشرين.
ومن خواصها : ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها ، فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة .
وقال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا أحمد ، حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى حدثنا جدي حرملة ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عمرو بن صالح الحضرمي ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه، عن عقبة بن عامر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه، وقال ما يعبأ الله بابن الخطاب بعد هذا، فنزل جبرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر رضي الله تعالى عنه.
ومن نسائه أم حبيبة بنت أبي سفيان واختلاف أهل العلم في ذلك
* وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة، وولى نكاحها عثمان بن عفان ، وقيل : خالد بن سعيد بن العاص .
* وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل، عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، قال: وكان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث خلال أعطيهن . قال : نعم . قال : عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها . قال: نعم قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال : نعم ، قال: وتؤمرني أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم . قال أبو زميل : ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك ، لأنه لم يكن يسأل شيئاً إلا قال نعم .
* وقد أشكل هذا الحديث على الناس: فإن أم حبيبة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلام أبي سفيان كما تقدم، زوجها إياه النجاشي ، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أبوها، فكيف يقول بعد الفتح أزوجك أم حبيبة ؟ فقالت طائفة: هذا الحديث كذب لا أصل له. قال ابن حزم : كذبه عكرمة بن عمار ، وحمل عليه.
واستعظم ذلك آخرون ، وقالوا أنى يكون في صحيح مسلم حديث موضوع، وإنما وجه الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجدد له العقد على ابنته ليبقى له وجه بين المسلمين وهذا ضعيف، فإن في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده وهو الصادق الوعد، ولم ينقل أحد قط أنه جدد العقد على أم حبيبة، ومثل هذا لو كان لنقل، ولو نقل واحد عن واحد، فحيث لم ينقله أحد قط علم أنه لم يقع، ولم يزد القاضي عياض على استشكاله، فقال: والذي وقع في مسلم من هذا غريب جداً عند أهل الخبر، وخبرها مع أبي سفيان عند وروده المدينة بسبب تجديد الصلح ودخوله عليها مشهور.
وقالت طائفة: ليس الحديث بباطل، وإنما سأل أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه ابنته الأخرى عزة أخت أم حبيبة . قالوا: ولا يبعد أن يخفى هذا على أبو سفيان لحداثة عهده بالإسلام، وقد خفي هذا على ابنته أم حبيبة ، حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فقال: إنها لا تحل لي ، فأراد أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته الأخرى، فاشتبه على الراوي، وذهب وهمه إلى أنها أم حبيبة ، وهذا التسمية من غلط بعض الرواة، لا من قول أبي سفيان ، لكن يرد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نعم وأجابه إلى ما سأل، فلو كان المسؤول أن يزوجه أختها لقال: إنها لا تحل لي : كما قال ذلك لأم حبيبة ، ولولا هذا لكان التأويل في الحديث من أحسن التأويلات.
وقالت طائفة: لم يتفق أهل النقل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة رضي الله تعالى عنها، وهي بأرض الحبشة، بل قد ذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بالمدينة بعد قدومها من الحبشة، حكاه أبو محمد المنذري ، وهذا من أضعف الأجوبة لوجوه:
أحدها : أن هذا القول لا يعرف به أثر صحيح ولا حسن ، ولا حكاه أحد ممن يعتمد على نقله.
الثاني أن قصة أم حبيبة وهي بأرض الحبشة قد جرت مجرى التواتر، كتزويجه صلى الله عليه وسلم خديجة بمكة، وعائشة بمكة، وبنائه بعائشة بالمدينة، وتزويجه حفصة بالمدينة ، وصفية عام خيبر، و ميمونة في عمرة القضية، ومثل هذه الوقائع شهرتها عند أهل العلم موجبة لقطعهم بها، فلو جاء سند ظاهر الصحة يخالفها عدوه غلطاً ، ولم يلتفتوا إليه، ولا ينكرهم مكابرة نفوسهم في ذلك.
الثالث: أنه من المعلوم عند أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله أنه لم يتأخر نكاح أم حبيبة إلى بعد فتح مكة ، ولا يقع ذلك في وهم أحد منهم أصلاً.
الرابع: أن أبا سفيان لما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي ع هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم .فال والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر . وهذا مشهور عند أهل المغازي ( وذكره ابن إسحاق وغيره في قصة قدوم أبي سفيان المدينة لتجديد الصلح).
الخامس: أن أم حبيبة كانت من مهاجرات الحبشة مع زوجها عبيد الله بن حجش ثم تنصر زوجها وهلك بأرض الحبشة، ثم قدمت هي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحبشة، وكانت عنده ولم تكن عند أبيها، وهذا مما لا يشك في ه أحد من أهل النقل، ومن المعلوم أن أباها لم يسلم إلا عام الفتح فكيف يقول: عندي أجمل العرب أزوجك إياها؟ وهل كانت عنده بعد هجرتها وإسلامها قط؟ فإن كان قال له هذا القول قبل إسلامه، فهو محال، فإنها لم تكن عنده ولم يكن له ولاية عليها أصلاً، وإن كان قاله بعد إسلامه فمحال أيضاً، لأن نكاحها لم يتأخر إلى بعد الفتح.
فإن قيل: بل يتعين أن يكون نكاحها بعد الفتح، لأن الحديث الذي رواه مسلم صحيح وإسناده ثقات حفاظ، وحديث نكاحها وهي بأرض الحبشة من رواية محمد ابن إسحاق مرسلاً، والناس مختلفون في الاحتجاج بمسانيد ابن إسحاق ، فكيف بمراسيله فكيف بها إذا خالفت المسانيد الثابتة: وهذه طريقة لبعض المتأخرين في تصحيح حديث ابن عباس هذا.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ما ذكره هذا الاقئل إنما يمكن عند تساوي النقلين ، فيرجح بما ذكره، وأما مع تحقيق بطلان أحد النقلين وتيقنه فلا يلتفت إليه، فإنه لا يعلم نزاع بين أثنين من أهل العلم بالسير والمغازي وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نكاح أم حبيبة لم يتأخر إلى بعد الفتح ، ولم يقله أحد منهم قط، ولو قاله قائل لعلموا بطلان قوله ولم يشكو فيه.
الثاني : أن قوله: إن مراسيل ابن إسحاق لا تقاوم الصحيح المسند ولا تعارضه. فجوابه: أن الاعتماد في هذا ليس على رواية ابن إسحاق وحده لا متصلة ولا مرسلة، بل على النقل المتواتر عند أهل المغازي والسير أن أم حبيبة هاجرت مع زوجها ، وأنه هلك نصرانياً بأرض الحبشة ، وأن النجاشي زوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها من عنده، وقصتها في كتب المغازي والسير، وذكرها أئمة العلم، واحتجوا بها على جواز الوكالة في النكاح.
قال الشافعي في رواية الربيع ، في حديث عقبة بن عامر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نكح الوليان فالأول أحق . قال : فيه دلالة على أن الوكالة في النكاح جائزة مع توكيل النبي صلى الله عليه وسلم عمرة بن أمية الضمري ، فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان .
وقال الشافعي في كتابه الكبيرة أيضاً، رواه الربيع: ولا يكون الكافر ولياً لمسلمة وإن كانت ابنته ، قد زوج ابن سعيد بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأبو سفيان حي، لأنها كانت مسلمة وابن سعيد مسلم ، ولا أعلم مسلماً أرب لها منه ، ولم يكن لأبي سفيان فيها ولاية ، لأن الله قطع الولاية بين المسلمين والمشركين، والمواريث والعقل وغير ذلك، وابن سعيد هذا الذي ذكره الشافعي هو خالد بن سعيد بن العاص ، ذكره ابن إسحاق، وغيره ، وذكر عروة والزهري أن عثمان بن عفان هو الذي ولي نكاحها، وكلاهما ابن عم أبيها ، لأن عثمان هو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية ، وخالد هو ابن سعيد بن أمية ، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أمية.
والمقصود أن أئمة الفقه والسير ذكروا أن نكاحها كان بأرض الحبشة، وهذا يبطل وهم من توهم أنه تأخر إلى بعد الفتح اغتراراً منه بحديث عكرمة بن عمار
الثالث : أن عكرمة بن عمار راوي حديث ابن عباس هذا قد ضعفه كثير من أئمة الحديث ، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، قال ليست أحاديثه بصحاح . وقال الإمام أحمد : أحاديثه ضعاف . وقال أبو حاتم : عكرمة هذا صدوق، وربما وهم ، وربما دلس . وإذا كان هذا حال عكرمة فلعله دلس هذا الحديث عن غير حافظ أو غير ثقة فإن مسلماً في صحيحه : رواه عن عباس بن عبد العظيم ، عن النضر بن محمد ، عن عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس بن عبد العظيم، عن النضر بن محمد ، عن عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس ، وهكذا معنعناً. ولكن قد رواه الطبراني في معجمه ، فقال: حدثنا محمد بن محمد الجذوعي ، حدثنا العباس بن عبد العظيم ، حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثني ابن عباس ، فذكره.
وقال أبو الفرج بن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار راوي الحديث، قال: وإنما قلنا إن هذا وهم لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن حجش ، وولدت له وهاجر بها، وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر ، وثبتت أم حبيبة على دينها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إياها وأصدقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم، وذلك في سنة سبع من الهجرة ، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل عليها فثنت بساط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمانً ولا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان. آخر كلامه.
وقال أبو محمد بن حزم : هذا حديث موضوع لا شك في وضعه، والآفة فيه من عكرمة بن عمار ، ولم يختلف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل الفتح بدهر، وأبوها كافر
فإن قيل : لم ينفرد عكرمة بن عمار بهذا الحديث ، بل قد توبع عليه فقال الطبراني في معجمه: حدثنا على بن سعيد الرازي ، حدثنا محمد بن حليف بن مرسال الخثعمي ، قال: حدثني عمي إسماعيل بن مرسال ، عن أبي زميل الحنفي ، قال: حدثني ابن عباس ، قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يفاتحونه فقال : يا رسول الله، ثلاث أعطيهن. الحديث.
فهذا إسماعيل بن مرسال قد رواه عن أبي زميل، كما رواه عنه عكرمة بن عمار ، فبرىء عكرمة من عهدة التفرد.
قيل: هذه المتابعة لا تفيده قوة، فإن هؤلاء مجاهيل لا يعرفون بنقل العلم، ولا هم ممن يحتج بهم ، فضلاً عن أن تقدم روايتهم على النقل المستفيض المعلوم عند خاصة أهل العلم وعامتهم ، فهذه المتابعة إن لم تزده وهناً لم تزده قوة ، وبالله التوفيق.
وقالت طائفة منهم البيهقي و المنذري رحمهما الله تعالى : يحتمل أن تكون مسألة أبي سفيان النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة ، وهو كافر، حين سمع نعي زوج أم حبيبة بأرض الحبشة، والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه، فجمعهما الراوي. وهذا أيضاً ضعيف جداً، فإن أبا سفيان إ،ما قدم المدينة آمناً بعد الهجرة في زمن الهدنة قبيل الفتح ، وكانت أم حبيبة إذ ذاك من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقدم أبو سفيان قبل ذلك إلا مع الأحزاب عام الخندق، ولولا الهدنة والصلح الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يقد المدينة ، حتى قدم وزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ؟ فهذا غلط ظاهر.
وأيضاً فإنه لا يصح أن يكون تزويجه إياها في حال كفره، إذ لا ولاية له عليها ، ولا تأخر ذلك إلى بعد إسلامه، لما تقدم ، فعلى التقديرين لا يصح قوله: أزوجك أم حبيبة.
وأيضاً فإن ظاهر الحديث يدل على أن المسائل الثلاثة وقعت منه في وقت واحد، وأنه قال: ثلاث أعطنيهن.. الحديث، ومعلوم أن سؤاله تأميره واتخاذ معاوية كاتباً إنما يتصور بعد إسلامه، فكيف يقال بل سأل بعض ذلك في حال كفره وبعضه هو مسلم؟ وسياق الحديث يرده.
وقالت طائفة : بل يمكن حمل الحديث على محمل صحيح يخرج به عن كونه موضوعاً، إذ القول بأن في صحيح مسلم حديثاً موضوعاً مما ليس يسهل، قال: ووجهه أن يكون معنى أزوجكها أرضى بزواجك بها، فإنه كان على رغم مني، وبدون اختياري، وإن كان نكاحك صحيحاً، لكن هذا أجمل وأحسن وأكمل لما فيه من تأليف القلوب، قال: وتكون إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بنعم كانت تأنيساً له، ثم أخبره بعد بصحة العقد فإنه لا يشترط رضاك ولا ولاية عليها، لاختلاف دينكما حالة العقد. قال: وهذا مما لا يمكن دفع احتماله، وهذا مما لا يقوى أيضاً.
ولا يخفى شدة بعد هذا التأويل من اللفظ، وعدم فهمه منه فإن قوله: عندي أجمل العرب أزوجكها. لا يفهم منه أحد أن زوجتك التي هي في عصمة نكاحك، أرضى زواجك بها. ولا يطابق هذا المعنى أن يقول له النبي: نعم فإنه إنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمراً تكون الإجابة إليه من جهته صلى الله عليه وسلم ، فأما رضاه بزواجه بها فأمر قائم بقلبه هو، فكيف يطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم .
ولو قيل: طلب منه أن يقره على نكاحه إياها وسمى إقراره نكاحاً. لكان مع فساده أقرب إلى اللفظ، وكل هذه تأويلات مستنكرات في غاية المنافرة للفظ ولمقصود الكلام.
وقالت طائفة: كان أبو سفيان يخرج إلى المدينة كثيراً فيحتمل أن يكون جاءها وهو كافر أو بعد إسلامه حين كان النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً واعتزلهن، فتوهم أن ذلك الإيلاء طلاق كما توهمه عمر رضي الله عنه، فظن وقوع الفرقة به، فقال هذا القول للنبي صلى الله عليه وسلم متعطفاً له ومتعرضاً لعله يراجعها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بنعم، على تقدير: إن امتد الإيلاء أو وقع طلاق، فلم يقع شيء من ذلك.
وهذا أيضاً في الضعف من جنس ما قبله، ولا يخفى أن قوله: عندي أجمل العرب وأحسنه أزوجك إياها. أنه لا يفهم منه ما ذكر من شأن الإيلاء ووقوع الفرقة به، ولا يصح أن يجاب بنعم، ولا كان أبو سفيان حاضراً وقت الإيلاء أصلاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل في مشربة له حلف أن لا يدخل على نسائه شهراً، وجاء عمر بن الخطاب فاستأذن عليه في الدخول مراراً فأذن له في الثالث، فقال: أطلقت نساءك؟ فقال: لا فقال عمر :الله أكبر. واشتهر عند الناس أنه لم يطلق نساءه، وأين كان أبو سفيان حينئذ؟.
ورأيت للشيخ محب الدين الطبري كلاماً على هذا الحديث ، قال في جملته: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك كله قبل إسلامه بمدة تتقدم على تاريخ النكاح، كالمشترط ذلك في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمت تعطيهن: أم حبيبة أزوجكها، و معاوية يسلم فيكون كاتباً بين يديك، وتؤمرني بعد إسلامي فأقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين.
وهذا باطل أيضاً من وجوه:
أحدها: قوله: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبو سفيان ولا يقاعدونه. فقال: يا نبي الله ثلاث أعطيهن. فيا سبحان الله! هذا يكون قد صدر منه وهو بمكة قبل الهجرة، أو بعد الهجرة، وهو يجمع الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو وقت قدومه المدينة وأم حبيبة عند النبي صلى الله عليه وسلم لا عنده؟ فما هذا التكلف البارد؟ وكيف يقول وهو كافر: حتى أقاتل المشركين كما كنت أقاتل المسلمين. وكيف ينكر جفوة المسلمين له وهو جاهد في قتالهم وحربهم وإطفاء نور الله، وهذه قصة إسلام أبي سفيان معروفة لا اشتراط فيها ولا تعرض لشيء من هذا.
وبالجملة فهذه الوجوه وأمثالها مما يعلم بطلانها واستكراهها وفثاثتها، ولا تفيد الناظر فيها علماً، بل النظر فيها والتعرض لإبطالها من منارات العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
فالصواب أن الحديث غير محفوظ، بل وقع فيه تخليط، والله أعلم.
وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله تعالى وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة، وقالت إنك مشرك. ومنعته من الجلوس عليه.
من نسائه صلى الله عليه وسلم أم سلمة هند بنت أبي أمية
* وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب . وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد . توفيت سنة اثنين وستين ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتاً، وقيل: بل ميمونة.
* ومن خصائصها: أن جبرائيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده، فرأته في صورة الكلبي، ففي صحيح مسلم : عن أبي عثمان ، قال: أنبئت أن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة ،قال: فجعل يتحدث، ثم قام، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: من هذا؟ - قال - قالت : هذا دحية الكلبي قالت : أيم الله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة نبي الله صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر جبرائيل - أو كما قال. قال سليمان التيمي : فقلت لأبي عثمان : ممن سمعت هذا الحديث؟ قال؟ من أسامة بن زيد.
وزوجها ابنها عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وردت طائفة ذلك: بأن ابنها لم يكن له من السن حينئذ ما يعقل به التزويج.
ورد الإمام أحمد ذلك وأنكر على من قاله، ويدل على صحة قوله ما روى مسلم في صحيحه: أن عمر بن أبي سلمة ابنها سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، فقال: سل هذه؟، يعني أم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. فقال: لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم يحل لرسوله ما شاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أتقاكم لله وأعلمكم به أو كما قال. ومثل هذا لا يقال لصغير جداً، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة.
وقال البيهقي : وقول من زعم أنه كان صغيراً دعوى، ولم يثبت صغره بإسناد صحيح.
وقول من زعم أنه زوجها بالبنوة مقابل بقول من قال: إنه زوجها بأنه كان من بني أعمامها، ولم يكن لها ولي هو أقرب منه إليها، لأنه عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . وأم سلمة: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .وقد قيل: إن الذي زوجها هو عمر بن الخطاب لا ابنها، لأن في غالب الروايات: قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعمر بن الخطاب هو كان الخاطب.
ورد هذا بأن في النسائي: فقالت لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأجاب شيخنا أبو الحجاج المزي الحافظ بأن الصحيح في هذا: قم يا عمر، فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما لفظ: ابنها فوقعت من بعض الرواة لأنه لما كان اسم ابنها عمر. وفي الحديث: قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظن الراوي أنه ابنها، وأكثر الروايات في المسند وغيره: قم يا عمر من غير ابنها قال: ويدل على ذلك أن ابنها عمر كان صغير السن، لأنه قد صح عنه أنه قال: كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا غلام سم الله ،وكل بيمينك، وكل مما يليك، وهذا يدل على صغر سنه حين كان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم.
* وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة فطلقها فزوجها الله إياهن فوق سبع سماوات، وأنزل عليه : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [الأحزاب: 37]، فقام فدخل عليها بلا استئذان. وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماواته. وهذا من خصائصها. توفيت بالمدينة سنة عشرين ودفنت بالبقيع.
ومن نسائه عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت تحت عبد الله بن جحش، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تسمى أم المساكين، لكثرة إطعامها المساكين، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة وتوفيت رضي الله عنها
ومن نسائه زينب بنت خزيمة الهلالية
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت تحت عبد الله بن جحش، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تسمى أم المساكين، لكثرة إطعامها المساكين، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة وتوفيت رضي الله عنها
ومن نسائه جوبرية بنت الحارث من بني المصطلق:
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث ، من بني المصطلق، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس ،فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها سنة ست من الهجرة، وتوفيت سنة ست وخمسين، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان ذلك من بركتها على قومها
ومن نسائه صفية بنت الحارث من بني المصطلق
* وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي من ولد هارون بن عمران أخي موسى ، سنة سبع ، فإنها سبيت من خيبر، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق ، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفيت سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة خمسين.
ومن خصائصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها، قال أنس: أمهرها نفسها. وصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة، يجوز للرجل أن يجعل عتق جاريته صداقها، وتصير زوجته، على منصوص الإمام أحمد.
قال الترمذي : حدثنا إسحاق بن منصور ، و عبد بن حميد ، قالا: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ثابت ، عن أنس ، قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: صفية بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟، قالت : قالت لي حفصة: إني ابنة يهودي. فقال النبي: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك؟ ثم قال: اتق الله يا حفصة ، قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه
وهذا من خصائصها رضي الله عنها
الفصل في ذكر إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام
وهذا الاسم من النمط المتقدم فإن إبراهيم بالسريانية معناه أب رحيم والله سبحانه وتعالى جعل إبراهيم الأب الثالث للعالم، فإن أبانا الأول آدم ، والأب الثاني نوح ، وأهل الأرض كلهم من ذريته، كما قال تعالى: وجعلنا ذريته هم الباقين [الصافات:77]، وبهذا يتبين كذب المفترين من العجم الذين يزعمون أنهم لا يعرفون نوحاً ولا ولده، ولا ينسبون إليه، وينسبون ملوكهم من آدم إليهم، ولا يذكرون نوحاً في أنسابهم، وقد أكذبهم الله عز وجل في ذلك.
فالأب الثالث أب الأباء وعمود العالم، وإمام الحنفاء الذي اتخذه الله خليلاً، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ذاك خليل الرحمن، وشيخ الأنبياء كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فإنه لما دخل الكعبة وجد المشركين قد صوروا فيها صورته وصورة إسماعيل ابنه وهما يستقسمان بالأزلام، فقال:قاتلهم الله، لقد علموا أن شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام ولم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة أحد الأنبياء غيره، فقال تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين [النحل:123]، وأمر أمته بذلك فقال تعالى: هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل [الحج:78]، وملة منصوب على إضمار فعل، أي: اتبعوا والزموا ملة إبراهيم، ودل على المحذوف ما تقدم من قوله: وجاهدوا في الله حق جهاده [الحج:78]، وهذا هو الذي يقال له الإغراء. وقيل: منصوب انتصاب المصادر، والعامل فيه مضمون ما تقدم قبله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص،ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين .
وتأمل هذه الألفاظ كيف جعل الفطرة للإسلام، فإنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكلمة الإخلاص هي: شهادة أن لا إله إلا الله ، والملة لإبراهيم فإنه صاحب الملة، وهي التوحيد وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ومحبته فوق كل محبة. والدين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو دينه الكامل وشرعه التام الجامع لذلك كله.
وسماه الله سبحانه: إماماً وأمة، وقانتاً، وحنيفاً. وقال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [البقرة:124]، فأخبر سبحانه أنه جعله إماماً للناس، وأن الظالم من ذريته لا ينال رتبة الإمامة، والظالم هو المشرك، وأخبر سبحانه أن عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به، وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين [النحل:120-121].
فالأمة هو القدوة المعلم للخير، والقانت المطيع لله الملازم لطاعته، والحنيف المقبل على الله، المعرض عما سواه، ومن فسره بلازم المعنى، فإن الحنف هو الإقبال، ومن أقبل على شيء مال عن غيره، والحنف في الرشجلين هو إقبال إحداهما على الأخرى، ويلزمه ميلها عن جهتها. قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها [الروم:30]، فحنيفاً هو حال مفردة لمضمون قوله: فأقم وجهك للدين ولهذا فسرت مخلصاً فتكون الآية قد تضمنت الصدق والإخلاص، فإن إقامة الوجه للدين هو إفراد طلبه بحيث لا يبقى في القلب إرادة لغيره، والحنيف المفرد لمعبوده لا يريد غيره. فالصدق أن لا ينقسم طلبك، والإخلاص أن لا ينقسم مطلوبك، الأول: توحيد ، والثاني : توحيد المطلوب.
والمقصود: أن إبراهيم عليه السلام هو أبونا الثالث، وهو إمام الحنفاء، وتسميه أهل الكتاب عمود العالم، وجميع أهل الملل متفقة على تعظيمه وتوليه ومحبته.
وكان خير بنيه سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه ويبجله ويحترمه . ففي الصحيحين : من حديث المختار بن فلفل ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا خير البرية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك إبراهيم .
وسماه شيخه ، كما تقدم.
وثبت في صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: إنكم محشرون حفاة عراة غرلاً ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [الأنبياء:104]، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه الخلق به، كما في الصحيحين ، عنه قال: رأيت إبراهيم فإذا أقرب الناس شبهاً به صاحبكم يعني نفسه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ آخر: فانظروا إلى صاحبكم .
وكان صلى الله عليه وسلم يعوذ أولاد ابنته حسناً وحسيناً بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق، ففي صحيح البخاري : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة .
وكان صلى الله عليه وسلم أول من قرى الضيف، وأول من اختتن، وأول من رأى الشيب. فقال: ما هذا يا رب؟ قال: وقار. قال: رب زدني وقاراً .
تفسير قوله تعالى " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم" الآية
وتأمل ثناء الله سبحانه عليه في إكرام ضيفه الملائكة حيث يقول سبحانه: هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون [الذاريات: 24-27]، ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة:
أحدها: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون وهذا على أحد القولين أنه إكرام إبراهيم لهم. والثاني: أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين، فالآية تدل على المعنيين.
الثاني: قوله تعالى: إذ دخلوا عليه فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم، بقي منزله مضيفة، مطروقاً لمن ورده، لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم.
الثالث: قوله: سلام بالرفع، وهم سلموا عليه بالنصب. والسلام بالرفع أكمل فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والتجدد، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم ، فإن قولهم : سلاماً يدل على سلمنا سلاماً، وقوله: سلام أي: سلام عليكم.
الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: قوم منكرون فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال: أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام.
الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول، وحذف فاعله، فقال: منكرون ولم يقل إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.
السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له، أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.
السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيأً للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه.
الثامن: قوله: فجاء بعجل سمين دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل فأمر لهم، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببضعة منه، وهذا من تمام كرمه صلى الله عليه وسلم .
العاشر: إنه سمين لا هزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للإقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.
الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه وهذا أبلغ في الكرامة، أن يجلس الضيف، ثم يقرب الطعام إليه، ويحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.
الثالث عشر: أنه قال: ألا تأكلون وهذا عرض وتلطف في القول ، وهو أحسن من قوله: كلوا، أو مدوا أيديكم، ونحوها، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه، ولهذا يقولون: بسم الله، أو ألا تتصدق، أو ألا تجبر، ونحو ذلك.
الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا، وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل قال لهم: ألا تأكلون ولهذا أوجس منهم خيفة، أي: أحسها وأضمرها في نفسه ولم يبدها لهم وهو الوجه.
الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم ولم يظهر لهم ذلك، فلما علمت الملائكة منه ذلك، قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام.
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم ، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.
وقد شهد الله سبحانه بأنه وفى ما أمر به فقال تعالى: أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى [النجم: 36-37]، قال ابن عباس رضي الله عنه : وفى جميع شرائع الإسلام، ووفى ما أمر به من تبليغ الرسالة.
وقال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [البقرة:124]، فلما أتم ما أمر به من الكلمات جعله الله إماماً للخلائق يأتمون به.
وكان صلى الله عليه وسلم كما قيل: قلبه للرحمن، وولده للقربان، وبدنه للنيران، وماله للضيفان.
ولما اتخذه ربه خليلاً- والخلة هي كمال المحبة، وهي مرتبة لا تقبل المشاركة و