الفصل السابع : في ذكر نكتة حسنة في هذا الحديث المطلوب فيه الصلاة عليه وعلى آله كما صلى على إبراهيم وعلى آله
وهي أن أكثر الأحاديث الصحاح والحسان، بل كلها مصرحة بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وبذكر آله، وأما في حق المشبه به وهو إبراهيم وآله، فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم فقط دون ذكر إبراهيم، أو بذكره فقط دون ذكر آله، ولم يجئ حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم، كما تظاهرت على لفظ : محمد وآل محمد.
ونحن نسوق الأحاديث الواردة في ذلك، ثم نذكر ما يسره الله تعالى في سر ذلك. فنقول: هذا الحديث في الصحيح من أربعة أوجه: أشهرها؟ حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك - وفي لفظ: وبارك- على محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
رواه البخاري ومسلم وأبو دود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد ابن حنبل في المسند، وهذا لفظهم إلا الترمذي فإنه قال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم فقط، وكذا في البركة، ولم يذكر الآل، وهي رواية لأبي داود .
وفي رواية: كما صليت على آل إبراهيم بذكر الآل فقط، وكما باركت على إبراهيم بذكره فقط.
وفي الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي ، قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد هذا هو اللفظ المشهور.
وقد روي فيه: كما صليت على إبراهيم ، وكما باركت على إبراهيم بدون لفظ الآل في الموضعين.
وفي البخاري : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قلنا يا رسول الله، هذا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم .
وفي صحيح مسلم : عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير أبن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم .
وقد روي هذا الحديث بلفظ آخر: كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم لم يذكر الآل فيهما.
وفي رواية أخرى: كما صليت على إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم بذكر إبراهيم وحده في الأول والآل فقط في الثانية.
هذه هي الألفاظ المشهورة في هذه الأحاديث المشهورة، في أكثرها لفظ: آل إبراهيم في الموضعين، وفي بعضها لفظ : إبراهيم فيهما، وفي بعضها لفظ: إبراهيم في الأول والآل في الثاني ، وفي بعضها عكسه.
وأما الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم، فرواه البيهقي في سننه: من حديث يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وهذا إسناد ضعيف.
ورواه الدارقطني : من حديث ابن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، فذكر الحديث وفيه: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ثم قال: هذا إسناد حسن متصل.
وفي النسائي : من حديث موسى بن طلحة، عن أبيه ، قال: قلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ولكن رواه هكذا، ورواه مقتصراً فيه على ذكر إبراهيم في الموضعين.
وقد روى ابن ماجه حديثاً آخر موقوفاً على ابن مسعود فيه، إبراهيم وآل إبراهيم قال في السنن : حدثنا الحسين بن بيان، حدثنا زياد بن عبد الله، حدثنا المسعودي ، عن عون بن عبد الله، عن أبي فأخته، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، قال: فقالوا له: فعلمنا؟ قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم أبعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وهذا موقوف.
وعامة الأحاديث في الصحاح و السنن كما ذكرنا أولاً بالاقتصار على الآل، أو إبراهيم في الموضعين، أو الآل في أحدهما وإبراهيم في الآخر، وكذلك في حديث أبي هريرة المتقدم في أول الكتاب وغيره من الأحاديث، فحيث جاء ذكر إبراهيم وحده في الموضعين فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها، وآله تبع له فيها، فدل ذكر المتبوع على التابع، واندرج فيه، وأغنى عن ذكره. وحيث جاء ذكر آله فقط فلأنه داخل في آله كما تقدم تقريره، فيكون ذكر آل إبراهيم مغنياً عن ذكره، وذكر آله بلفظين، وحيث جاء في أحدهما ذكره فقط وفي الآخر ذكر آله فقط كان ذلك جمعاً بين الأمرين، فيكون قد ذكر المتبوع الذي هو الأصل، وذكر أتباعه بلفظ يدخل هو فيهم.
يبقى أن يقال، فلم جاء ذكر محمد وآل محمد بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، وجاء الاقتصار على إبراهيم وآله في عامتها ؟.
وجواب ذلك: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم فإنما جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع، لأن قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد جملة طلبية، وقوله: كما صليت على آل إبراهيم جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفه، ولهذا يشرع تكرارها، وإبداؤها وإعادتها، فإنها دعاء والله يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ، وذكر كل معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه، ما يشهد لذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه مسلم في صحيح : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن ألفاظ الحديث في مقام الدعاء والتضرع، وإظهار العبودية والافتقار، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار.
وكذلك قوله في الحديث الآخر: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله سره وعلانيته، وأوله وآخره ، وفي الحديث: اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي .
وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية لله، وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكلما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوع جمله، كان ذلك أبلغ في عبوديته وإظهار فقره وتذلله وحاجته، وكان ذلك أقرب له من ربه، وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته، وثقلت عليه، وهنت عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه. والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك، ومن لم يسأله يغضب عليه:
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
فالمطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه.
وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة، ولا سيما ليس المقام مقام إيضاح وتفهيم للمخاطب ليحسن معه البسط والإطناب، فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأحسن، فلهذا جاء فيه بلفظ: إبراهيم تارة وبلفظ: آلهأخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الذي قدمناه، فكان المراد باللفظين واحداً مع الإيجاز والإختصار. وأما في الطلب فلو قيل: صل على محمد لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ، ليس خبراً عن أمر قد وقع واستقر. ولو قيل: صل على آل محمد لكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يصلى عليه في العموم، فقيل: على محمد وعلى آل محمد فإنه يحصل له بذلك الصلاة عليه بخصوصه، والصلاة عليه بدخوله في آله.
وهنا للناس طريقتان في مثل هذا: أن يقال: هو داخل في آله مع اقترانه بذكره، فيكون قد ذكر مرتين: مرة بخصوص، ومرة في اللفظ العام، وعلى هذا فيكون قد صلى عليه مرتين خصوصاً وعموماً، وهذا على أصل من يقول: إن العام إذا ذكر بعد الخاص كان متناولاً له أيضا، ويكون الخاص قد ذكر مرتين، مرة بخصوصه، ومرة بدخوله في اللفظ العام، وكذلك في ذكر الخاص بعد العام، كقوله تعالى: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [البقرة: 98]، وكقوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم [الأحزاب: 7]الآية.
الطريقة الثانية: أن ذكره بلفظ الخاص يدل على أنه غير داخل في اللفظ العام، فيكون ذكره بخصوصه مغنياً عن دخوله في اللفظ العام، وعلى هذه الطريقة ، فيكون في ذلك فوائد:
منها أنه لما كان من أشرف النوع العام، أفرد بلفظ دال عليه بخصوصه، كأنه باين النوع، وتميز عنهم بما أوجب أن يتميز بلفظ يخصه، فيكون ذلك تنبياً على اختصاصه ومزيته عن النوع الداخل في اللفظ العام.
الثانية: أنه يكون فيه تنبيه على أن الصلاة عليه أصل، والصلاة على آله تبع له إنما نالوها بتبعيتهم له.
الثالثة: أن إفراده بالذكر يرفع عنه توهم التخصيص، وأنه لا يجوز أن يكون مخصوصاً من اللفظ العام بل هو مراد قطعاً.
الفصل الثامن: في قوله: اللَّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد
وذكر البركة وحقيقتها: الثبوت وللزوم والاستقرار، فمنه برك البعير: إذا استقر على الأرض، ومنه المبرك: لموضع البروك. وقال صاحب الصحاح: وكل شيء ثبت وأقام فقد برك. والبرك : الإبل الكثيرة، والبركة: بكسر الباء كالحوض، والجمع: البرك، ذكره الجوهري . قال ويقال: سميت بذلك لإقامة الماء فيها. والبراكاء: الثبات في الحرب والجد فيها، قال الشاعر:
ولا ينجي من الغمرات إلا براكاء القتال أو الفرار
والبركة: النماء والزيادة. والتبريك: الدعاء بذلك. ويقال: باركه الله وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له، وفي القرآن: أن بورك من في النار ومن حولها [النمل:8]، وفيه: وباركنا عليه وعلى إسحاق [الصافات:113]، وفيه:باركنا فيها [الأنبياء:71].
وفي الحديث : وبارك لي فيما أعطيت ، وفي حديث سعد : بارك الله لك في أهلك ومالك . والمبارك: الذي قد باركه الله سبحانه، كما قال المسيح عليه السلام: وجعلني مباركا أين ما كنت [مريم:31]، وكتابه مبارك، قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنزلناه [الأنبياء:50]، وقال: كتاب أنزلناه إليك مبارك [ص:29]، وهو أحق أن يسمى مباركا من كل شيء، لكثرة خيره ومنافعه، ووجوه البركة فيه، والرب تعالي يقال في حقه:تبارك ولا يقال: مبارك.
ثم قالت طائفة، منهم الجوهري : إن تبارك بمعنى بارك، مثل قاتل وتقاتل، قال: إلا أن فاعل يتعدى، وتفاعل لا يتعدى، وهذا غلط عند المحققين، وإنما تبارك تفاعل من البركة، وهذا الثناء في حقه تعالى إنما هو لوصف رجع إليه تعالى، فإنه تفاعل من العلو ، ولهذا يقرن بين هذين اللفظين، فيقال: تبارك وتعالى ، وفي دعاء القنوت: تباركت وتعاليت وهو سبحانه أحق بذلك وأولى من كل أحد، فإن الخير كله بيده، وكل الخير منه. صفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة، وخيرات لا شرور فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : والشر ليس إليك وإنما يقع الشر في مفعولاته ومخلوقاته، لا في فعله سبحانه. فإذا كان العبد وغيره مباركاً، لكثرة خيره ونفعه واتصال أسباب الخير فيه، وحصول ما ينتفع به الناس منه، فالله تبارك وتعالى أحق أن يكون متباركاً، وهذا ثناء يشعر بالعظمة، والرفعة والسعة، كما يقال: تعاظم وتعالى، ونحوه، فهو دليل على عظمته وكثرة خيره ودوامه، واجتماع صفات الكمال فيه، وأن كل نفع في العالم كان ويكون فمن نفعه سبحانه وإحسانه.ويدل هذا الفعل أيضاً في حقه على العظمة والجلال وعلو الشأن، ولهذا إنما يذكره غالباً مفتتحاً به جلاله وعظمته وكبرياءه، قال تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54]، وقال: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [الفرقان: 1]، وقال تعالى: تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً [الفرقان:61]، وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون [الزخرف:85]، و تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [الملك: 1]، وقال تعالى عقب خلق الإنسان في أطواره السبعة: فتبارك الله أحسن الخالقين [المؤمنون: 14]، فقد ذكر تباركه سبحانه في المواضع التي أثنى فيها على نفسه بالجلال والعظمة، والأفعال الدالة على ربوبيته وإلهيته وحكمته وسائر صفات كماله: من إنزال الفرقان، وخلق العالمين، وجعله البروج في السماء والشمس والقمر، وانفراده بالملك، وكمال القدرة.
ولهذا قال أبو صالح : عن ابن العباس رضي الله عنه تبارك بمعنى : تعالى وقال أبو العباس : تبارك ارتفع، والمبارك: المرتفع.
وقال ابن الأنباري : تبارك بمعنى : تقدس.
وقال الحسن : تبارك تجيء البركة من قبله. وقال الضحاك : تبارك تعاظم. وقال الخليل بن أحمد : تمجد. وقال الحسين بن الفضل : تبارك في ذاته، وبارك فيمن شاء من خلقه وهذا أحسن الأقوال، فتباركه سبحانه صفة ذات له ، وصفة فعل، كما قال الحسين بن الفضل .
والذي يدل على ذلك أيضاً: أنه سبحانه يسند التبارك إلى اسمه، كما قال: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام [الرحمن:78]، وفي حديث الاستفتاح: تبارك اسمك وتعالى جدك ، فدل هذا على أن تبارك ليس بمعنى بارك، كما قاله الجوهري وأن تبريكه سبحانه جزء مسمى اللفظ، لا كمال معناه.
وقال ابن عطية : معناه عظم، وكثرت بركاته. ولا يوصف بهذه اللفظة إلا الله سبحانه وتعالى، ولا تتصرف هذه اللفظة في لغة العرب، لا يستعمل منها مضارع ولا أمر. قال: وعلة ذلك أن تبارك لما لم يوصف به غير الله، لم يقتض مستقبلاً، إذ الله تعالى قد تبارك في الأزل، قال: وقد غلط أبو علي القالي فقيل له: كيف المستقبل من تبارك؟ فقال: يتبارك. فوقف على أن العرب لم تقله.
وقال ابن قتيبة : تبارك اسمك: تفاعل من البركة، كما يقال: تعالى اسمك من العلو، يراد به أن البركة في اسمك، وفيما سمي عليه. وقال: وأنشدني بعض أصحاب اللغة بيتاً حفظت عجزه:
إلى الجذع جذع النخلة المتبارك
فقوله: يراد به أن البركة في اسمك وفيما سمي عليه، يدل على أن ذلك صفة لمن تبارك، فإن بركة الاسم تابعة لبركة المسمى، ولهذا كان قوله تعالى: فسبح باسم ربك العظيم [الحاقة: 52]، دليلاً على الأمر بتسبيح الرب بطريق الأولى، فإن تنزيه الاسم من توابع تنزيه المسمى.
وقال الزمخشري : فيه معنيان، أحدهما تزايد خيره وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله.
قلت: ولا تنافي بين المعنيين، كما قال الحسين بن الفضل وغيره.
وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن تبارك فقال: تمجد، ويجمع المعنيين مجده في ذاته وإفاضته البركة على خلقه، فإن هذا حقيقة المجد ، فإنه السعة، ومنه مجد الشيء: إذا اتسع، واستمجد، والعرش المجيد لسعته. وقال بعض المفسرين: يمكن أن يقال: هو من البروك، فيكون تبارك ثبت ودام أزلاً وأبداً، فيلزم أن يكون واجب الوجود، لأن ما كان وجوده من غيره لم يكن أزلياً.
وهذا قد يقال: إنه جزء المعنى ، فتباركه سبحانه يجمع هذا كله: دوام وجوده، وكثرة خيره، ومجده وعلوه، وعظمته وتقدسه، ومجيء الخيرات كلها من عنده، وتبريكه على من شاء من خلقه، وهذا هو المعهود من ألفاظ القرآن كلها أنها تكون دالة على جملة معان، فيعبر هذا عن بعضها، وهذا عن بعضها، واللفظ يجمع ذلك كله، وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع.
والمقصود الكلام على قوله: وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم ، فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته وثبوته له، ومضاعفته له وزيادته، هذا حقيقة البركة.
وقد قال تعالى في إبراهيم وآله: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق [الصافات:112-113]، وقال تعالى فيه وفي أهل بيته: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد [هود:73].
وتأمل كيف جاء في القرآن: وباركنا عليه وعلى إسحاق [الصافات: 113] ولم يذكر إسماعيل.
وجاء في التوراة ذكر البركة على إسماعيل ولم يذكر إسحاق، كما تقدم حكايته. وعن إسماعيل: سمعتك ها أنا باركته فجاء في التوراة ذكر البركة في إسماعيل إيذاناً بما حصل لبنيه من الخير والبركة، لا سيما خاتمة بركتهم وأعظمها وأجلها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنبههم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك صلى الله عليه وسلم ، وذكر لنا في القرآن بركته على إسحاق منبهاً لنا على ما حصل في أولاده من نبوة موسى عليه السلام وغيره، وما أوتوه من الكتاب والعلم مستدعياً من عباده الإيمان بذلك، والتصديق به، وأن لا يهملوا معرفة حقوق هذا البيت المبارك وأهل النبوة منهم، ولا يقول القائل: هؤلاء أنبياء بني إسرائيل لا تعلق لنا بهم ، بل يجب علينا احترامهم وتوقيرهم، والإيمان بهم، ومحبتهم وموالاتهم، والثناء عليهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولما كان هذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق خصهم الله سبحانه وتعالى منه بخصائص:
منها: أنه جعل فيه النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته.
ومنها أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم، فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم.
ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين: إبراهيم ومحمداً صلى الله وسلم عليهما، قال تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء: 125]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً وهذا من خواص هذا البيت.
ومنها: أنه سبحانه جعل صاحب هذا البيت إماماً للعالمين، كما قال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [البقرة:124].
ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس وقبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين.
ومنها: أنه أمر عباده بأن يصلوا على أهل هذا البيت، كما صلى على أهل بيتهم وسلفهم، وهم إبراهيم وآله، وهذه خاصية لهم.
ومنها: أنه أخرج منهم الأمتين المعظمتين اللتين لم تخرجا من أهل بيت غيرهم، وهم أمة موسى، وأمة محمد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تمام سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله.
ومنها: أن الله سبحانه أبقى عليهم لسان صدق، وثناء حسناً في العالم، فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم والصلاة والسلام عليهم، قال الله تعالى: وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين [ الصافات: 108-110].
ومنها: جعل أهل هذا البيت فرقاناً بين الناس، فالسعداء أتباعهم ومحبوهم ومن تولاهم، والأشقياء من أبغضهم وأعرض عنهم وعاداهم، فالجنة لهم ولأتباعهم، والنار لأعدائهم ومخالفيهم.
ومنها: أنه سبحانه جعل ذكرهم مقروناً بذكره، فيقال: إبراهيم خليل الله ورسوله ونبيه، ومحمد رسول الله وخليله ونبيه، وموسى كليم الله ورسوله، قال تعالى لنبيه يذكره بنعمته عليه: ورفعنا لك ذكرك [الشرح:4]، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا ذكرت ذكرت معي. فيقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي كلمة الإسلام، وفي الأذان، وفي الخطب، وفي التشهدات، وغير ذلك.
* ومنها: أنه سبحانه جعل خلاص خلقة من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة، والأيادي العظام عندهم التي يجازيهم عليها الله عز وجل.
ومنها : أن كل ضرر ونفع وعمل صالح وطاعة لله تعالى حصلت في العالم، فلهم من الأجر مثل أجور عامليها، فسبحان من يختص بفضله من يشاء من عباده.
ومنها أنه سبحانه وتعالى سد جميع الطرق بينه وبين العالمين وأغلق دونهم الأبواب، فلم يفتح لأحد قط إلا من طريقهم وبابهم.
قال الجنيد رضي الله عنه : يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق، أو استفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك.
ومنها: أنه سبحانه خصهم من العلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم من العالمين، فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وثوابه وعقابه وشرعه ومواقع رضاه وغضبه وملائكته ومخلوقاته منهم، فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين.
ومنها : أنه سبحانه خصهم من توحيده ومحبته وقربه والاختصاص به، بما لم يخص به أهل بيت سواهم.
ومنها: أنه سبحانه مكن لهم في الأرض واستخلفهم فيها، وأطاع لهم أهل الأرض، ما لم يحصل لغيرهم.
ومنها: أنه سبحانه أيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه وأعدائهم بما لم يؤيد غيرهم.
ومنها: أنه سبحانه محا بهم من آثار أهل الضلال والشرك، ومن الآثار التي يبغضها ويمقتها ما لم يمحه بسواهم.
ومنها: أنه سبحانه غرس لهم من المحبة والإجلال والتعظيم في قلوب العالمين ما لم يغرسه لغيرهم.
ومنها: أنه سبحانه جعل آثارهم في الأرض سبباً لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقياً ما بقيت آثارهم، فإذا ذهبت آثارهم من الأرض فذاك أوان خراب العالم، قال الله تعالى:جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد [المائدة:97]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: لو ترك الناس كلهم الحج لوقعت السماء على الأرض. وقال لو ترك الناس كلهم الحج لما نظروا. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في آخر الزمان يرفع الله بيته من الأرض، وكلامه من المصاحف وصدور الرجال، فلا يبقى له في الأرض بيت يحج ولا كلام يتلى، فحينئذ يقرب خراب العالم.
وهكذا الناس اليوم إنما قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم، وقيام أمورهم وحصول مصالحهم واندفاع أنواع البلاء والشر عنهم بحسب ظهورها بينهم وقيامها، وهلاكهم وعنتهم وحلول البلاء والشر بهم عند تعطلها والإعراض عنها، والتحاكم إلى غيرها واتخاذ سواها.
ومن تأمل تسليط الله سبحانه من سلطه على البلاد والعباد من الأعداء علم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيهم وسننه وشرائعه، فسلط الله عليهم من أهلكهم وانتقم منهم، حتى إن البلاد التي لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وشرائعه فيها ظهور دفع عنها بحسب ظهور ذلك بينهم.
وهذه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت، فلهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلب له من الله تعالى أن يبارك عليه وعلى آله كما بارك على هذا البيت المعظم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن بركات أهل هذا البيت أنه سبحانه أظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت غيرهم.
ومن بركاتهم وخصائصهم أن الله سبحانه أعطاهم من خصائصهم ما لم يعط غيرهم، فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم الذبيح، ومنهم من كلمه تكليماً وقربه نجياً، ومنهم من آتاه شطر الحسن وجعله من أكرم الناس عليه، ومنهم من أتاه ملكاً لم يؤته أحداً غيره، ومنهم من رفعه مكاناً علياً.
ولما ذكر سبحانه هذا البيت وذريتهم أخبر أن كلهم فضله على العالمين
ومن خصائصهم وبركاتهم على أهل الأرض أن الله سبحانه رفع العذاب العام عن أهل الأرض بهم وببعثهم، وكانت عادته سبحانه في أمم الأنبياء قبلهم أنهم إذا كذبوا أنبياءهم ورسلهم أهلكهم بعذاب يعمهم، كما فعل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، فلما أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن رفع بها العذاب العام عن أهل الأرض، وأمر بجهاد من كذبهم وخالفهم، فكان بذلك نصرة لهم بأيديهم، وشفاء لصدورهم، واتخاذ الشهداء منهم، وإهلاك عدوهم بأيديهم، لتحصيل محابه سبحانه على أيديهم.
وحق لأهل بيت هذا بعض فضائلهم وخصائصهم أن لا تزال الألسن رطبة بالصلاة عليهم والسلام والثناء والتعظيم، والقلوب ممتلئة من تعظيمهم ومحبتهم وإجلالهم، وأن يعرف المصلي عليهم أنه لو أنفق أنفاسه كلها في الصلاة عليهم ما وفى القليل من حقهم، فجزاهم الله عن بريته أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيماً وتشريفاً وتكريماً، وصلى الله عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها وسلم تسليماً.
الفصل التاسع : في اختتام هذه الصلاة بهذين الاسمين من أسماء الرب سبحانه وتعالى وهما: الحميد والمجيد
فالحميد فعيل من الحمد، وهو بمعنى محمود، وأكثر ما يأتي فعيلاً في أسمائه تعالى بمعنى فاعل ، كسميع ، وبصير، وعليم، وقدير، وعلي، وحكيم، وحليم. وهو كثير. وكذلك فعول، كغفور، وشكور، وصبور.
وأما الودود ففيه قولان:
أحدهما أنه بمعنى فاعل، وهو الذي يحب أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين.
والثاني: أنه بمعنى مودود، وهو المحبوب الذي يستحق أن يحب الحب كله، وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته.
وأما الحميد: فلم يأت إلا بمعنى المحمود، وهو أبلغ من المحمود، فإن فعيلاً إذا عدل به عن مفعول دل على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجية والغريزة والخلق اللازم، كما إذا قلت فلان ظريف أو شريف أو كريم، ولهذا يكون هذا البناء غالباً من فعل بوزن شرف، وهذا البناء من أبنية الغرائز والسجايا اللازمة ، ككبر وصغر وحسن ولطف، ونحو ذلك.
ولهذا كان حبيب أبلغ من محبوب، لأن الحبيب هو الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يجب لأجلها، فهو حبيب في نفسه وإن قدر أن غيره لا يحبه لعدم شعوره به، أو لمانع منعه من حبه، وأما المحبوب فهو الذي تعلق به حب المحب، فصار محبوباً بحب الغير له. وأما الحبيب فهو حبيب بذاته وصفاته، تعلق به حب الغير أو لم يتعلق، وهكذا الحميد والمحمود.
فالحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسهن والمحمود من تعلق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد والممجد، والكبير والمكبر، والعظيم والمعظم، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، فمن أحببته ولمتتثن عليه، لم تكن حامداً له، وكذا من أثنيت عليه لغرض ما، ولم تحبه لم تكن حامداً له حتى تكون مثنياً عليه محباً له، وهذا الثناء والحب تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل كان الحمد والحب أتم وأعظم ، ولله سبحانه له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يحب لذاته ولصفاته ولأفعاله ولأسمائه ولإحسانه ولكل ما صدر منه سبحانه وتعالى.
وأما المجد فهو مستلزم للعظمة والسعة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، والله سبحانه ذو الجلال والإكرام، وهذا معنى قول العبد: لا إله إلا الله والله أكبر، فلا إله إلا الله دال على ألوهيته وتفرده فيها، فألوهيته تستلزم محبته التامة، والله أكبر دال على مجده وعظمته، وذلك يستلزم تمجيده وتعظيمه وتكبيره، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين النوعين في القرآن كثيراً، كقوله: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد [هود:73]، وقوله سبحانه: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [الإسراء:111]، فأمر بحمده وتكبيره. وقال تعالى: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام [الرحمن:78]، وقال: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 27].
وفي المسند و صحيح أبي حاتم وغيره: من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألطو بياذا الجلال والإكرام يعني الزموها وتعلقوا بها، فالجلال والإكرام هو الحمد والمجد . ونظير هذا قوله: فإن ربي غني كريم [النمل: 40]، وقوله: فإن الله كان عفوا قديرا [النساء: 149]، وقوله: والله قدير والله غفور رحيم [الممتحنة: 7] وقوله: وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد [البروج: 14-15]، وهو كثير في القرآن.
وفي الحديث الصحيح : حديث دعاء الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم ، فذكر هذين الاسمين: الحميد والمجيد عقيب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله مطابق لقوله تعالى: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد [هو: 73].
ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه وتقريبه كما تقدم ، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما أسماء الحميد والمجيد، وهذا كما تقدم أن الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به، وتقدم أن هذا من قوله: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ الأعراف: 180]، قال سليمان عليه السلام في دعائه ربه: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب [ص:35]، وقال الخليل وابنه إسماعيل في دعائهما: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم [ البقرة: 128]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة في مجلسه، وقال لعائشة رضي الله عنها وقد سألته: إن وافقت ليلة القدر ما أدعو به؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وقال للصديق رضي الله عنه، وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، وهذا كثير قد ذكرناه في كتاب الروح والنفس
وما قاله الناس في قول المسيح عليه الصلاة والسلام: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [المائدة: 118]، ولم يقل الغفور الرحيم، وقول الخليل: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [إبراهيم: 36]، فلما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً بصلاة الله عليه ، ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد ، وأيضاً فإنه لما كان المطلوب للرسول حمداً ومجداً، وكان ذلك حاصلاً له ، ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرب بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص، فالرب أحق به.
وأيضاً فإنه لما طلب للرسول حمداً ومجداً بالصلاة عليه، وذلك يستلزم الثناء عليه، ختم هذا المطلوب بالثناء على مرسلة بالحمد والمجد، فيكون هذا الدعاء متضمناً لطلب الحمد والمجد للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والإخبار عن ثبوته للرب سبحانه وتعالى.
.........................